توقيت القاهرة المحلي 09:15:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصدرُ والقبرُ

  مصر اليوم -

الصدرُ والقبرُ

بقلم : عبد الرحمن شلقم

ونحن أناسُ لا توسط عندنا

لنا الصدر دون العالمينَ أو القبرُ
أبو فراس الحمداني، الفارس المقاتل والشاعر الفحل، ولد وعاش في زمن عربي فيه الكثير من القلق، ولم يغب عنه حلم العظمة والكبرياء. في بلاط ابن عمه سيف الدولة الحمداني الذي حكم حلب، وأقام مجالاً سلطوياً له بحد السيف، وخاض حروباً مع الروم حقق فيها انتصارات كبيرة. كان نخبوياً بارزاً، فجمع في حاشيته الشعراء والنحويين، وأسس لمرحلة عربية نوعية. الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، وسيف الدولة الحمداني، كانا هناك يتدفقان شعراً، ويخوضان المعارك مع قائدهم الذي نافح عن مجاله العربي أرضاً وهوية وأدباً. وبسط يديه لمن حوله. أبو فراس الحمداني عندما قال: (ونحن أناس)، قصد العرب جميعاً، ولم يعنِ بذلك من هم حول سيف الدولة الحمداني، أو العشيرة الحمدانية فقط. لماذا نذهب إلى ذلك؟ لأن الفارس الشاعر وقبله ابن عمه وقائده سيف الدولة ومن معه، كانوا يواجهون الرومان كعدو له هويته التي تمثل الآخر في كل شيء. أبو فراس لم يقف عند الآخر الروماني فحسب، بل وضع كل من فوق الأرض في دائرة لا تطاول (النحن) الذي يمثله الشاعر والفارس العربي الحمداني. قال: لنا الصدر دون العالمين. كلمة (العالمين) في اللغة العربية حمَّلها اللغويون والمفسرون أثقالاً كلامية ودينية مختلفة. ولكن ماذا عن الصدر؟
لقد قصد الشاعر الفارس ابن عم الحاكم المقاتل قاهر الأعداء؛ قصد التفوق المطلق على غير العرب. لا يقبل الوسطية في أي شيء. يحتكرون وحدهم كل سلالم العظمة. لكن هذا المكان الذي يعتليه الكبار، وهو الصدر له ثمن غال يقابله، وهو القبر أي الموت. وضع الشاعر قوسين على أطراف هويته المتعالية: الصدر والقبر.
أبو فراس الحمداني الفارس المقاتل والشاعر المعتز بكل ما به، ألقمته الحياة أمكنة وحالات، رأى فيها عالمين آخرين، وعاش ما دون التوسط الذي رفضه يوماً. فارسنا وهو في الأسْر صار حكيماً آخر. تعلق بحبل الكبرياء والجلد، لكن الإنسان هو الإنسان، بغض النظر عن هويته وعرقه ومعتقده. فيه كل مكامن القوة والضعف، والخير والشر وغيرها. ظروف الحياة وفعلها هما ما يحدد مكان كل واحد. في قفص الأسر صار أبو فراس واحداً من العالمين. لا صدر ولا أمر. قال :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ
أما للهوى نهي عليك ولا أمرُ
قال الشاعر قصيدته هذه التي استهلها بهذا البيت الغزلي على عادة الشعراء العرب القدامى، وهو أسير عند الروم. لكنه هنا غير ذلك الشاعر الفحل المقاتل الذي ينتمي إلى قوم لا يقبلون إلا بالصدارة. توسل كثيراً إلى ابن عمه الحاكم أن يفتديه ويحرره من قبضة الروم.
لم يجد صاحب الصدر مكاناً وسطاً، لا لأنه يرفضه، ولكنه خارج دائرة الاختيار، فهو بلا صدر ولا وسط. في جوف أسره صار يناجي حمامة، ويتوسل إليها أن تأتيه ليقاسمها همومه. نعم هناك في الحياة مضارب أخرى، وأماكن غير الصدر وغير القبر. هناك القصر والشارع والسجن، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والصدر والقبر، والعلم والجهل، وغيرها.
قد يكون التوسط حلماً بعيداً لا يطاله فارس أسير حتى في خيال شعره.
شعراء عرب خاضوا معارك الحياة. قاتلوا فانتصروا وهزموا. عاشوا بين الرفاهية والحاجة، وتنقلوا في رحاب الأرض والحياة. نضحت أشعار الكثيرين منهم فلسفة وحكمة خالدة. ارتفعت أصوات العلو والترفع والفخر، لكن مطرقة التدافع الإنساني العنيف كانت هي الأقوى دائماً.
الشاعر الفحل الفارس المقاتل رفيق أبي فراس الحمداني وغريمه في حاشية سيف الدولة الحمداني، أبو الطيب المتنبي كان ابن ذات المرحلة والبيئة التي تحركت بين الانتصارات والانكسارات، قال:
وإني لمن قومٍ كأن نفوسَهم
بها أَنَفٌ أن تسكنَ اللحمَ والعظما
كذا أنا يا دنيا فإن شئتِ فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قُدْما
فلا عبرتْ بي ساعةٌ لا تُعِزُّني
ولا صَحِبَتْنِي مهجةٌ تقبلُ الظُّلْمَا
شاعرنا الكبير عاش مثل رفيقه أبي فراس، السجن بتهمة ادعاء النبوة، وطوى الفيافي، يدفعه حلم لم يفارقه، وهو أن يكون ممسكاً بمقود صدر سياسي ومالي، لكنه فرَّ من خيمة سيف الدولة غاضباً محبطاً إلى سرادق كافور الإخشيدي طامعاً مادحاً، وغادر مصر هارباً خائفاً.
أما أولهم القديم عمرو بن كلثوم التغلبي الذي قال:
إذا بلغ الفطامَ لنا رضيعُ
تخر له الجبابر ساجدينا
فقد حلّق إلى ما فوق الصدر. الجبابرة يخرون ساجدين لرضيع من قومه. لا قوة للرضيع الذي يحبو سوى أنه ينتمي إلى عشيرة ترهب الجبابرة. فما بالك بمن بلغ سن الرشد حاملاً سيفه ودرعه من تلك العشيرة؟ !
ذاك ما كان عن الصدور التي لا تقبل التوسط، والنفوس التي بها أنف أن تسكن اللحما والعظما، والرضيع الذي تخر له الجبابرة خاضعين ساجدين. فماذا عن القبر؟
أبو فراس الحمداني الذي أعلن أنه لا يقبل التوسط. إما أن يكون مع من هم في الصدر وإما في القبر. انتقل من الأسر إلى القبر. قتل وعمره سبع وثلاثون سنة، في معركة مع أبي المعالي، وهو ابن أخته في صراع على تولي حكم إمارة مدينة حمص. صار إلى القبر بلا روح أو صدر.
أما أبو الطيب المتنبي، الذي قال بأنه من قوم كأن نفوسهم بها أنف أن تسكن اللحما والعظما، فقد سكنت نفسه وأنفها في قبر دفعه إليه مقتولاً عصابة من الصعاليك.
ذلك الزمن بما فيه من صدور وقبور، اندفع بقوة من لحد قديم، وصرخ شاخصاً في زمننا القريب، في شعارات وأغانٍ وأشعار قالت:
فلسطين تحميك منا الصدور
فإما الحياة وإما الردى
ولبيك يا علم العروبة
كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا
لعزك سلما
لبيك إن عطش اللواء
سكب الشباب له الدماء
غاب التوسط، وهو المكان الذي يصنعه العقل، بالعلم والإبداع والإنتاج والحرية. فتهشم الصدر وسادت الهزيمة والتخلف، واتسع القبر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصدرُ والقبرُ الصدرُ والقبرُ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين
  مصر اليوم - مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 08:48 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها
  مصر اليوم - دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء
  مصر اليوم - نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:21 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلاق إعلان الرياض لذكاء اصطناعي مؤثر لخير البشرية
  مصر اليوم - إطلاق إعلان الرياض لذكاء اصطناعي مؤثر لخير البشرية

GMT 23:09 2019 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

بورصة دبي تغلق دون تغيير يذكر عند مستوى 2640 نقطة

GMT 21:08 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

باريس سان جيرمان يستهدف صفقة من يوفنتوس

GMT 14:28 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير المصري تدعم إستمرار ميمي عبد الرازق كمدير فني
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon