توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تونس القادمة

  مصر اليوم -

تونس القادمة

بقلم : عبد الرحمن شلقم

رحل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي آخر رجال مرحلة البداية. كان توديعه استفتاءً مباشراً على شخصه ومرحلته التي ساهم في تأسيسها وقيادتها مع الحبيب بورقيبة، الزعيم الذي قاد تونس بعقلية عملية مركبة. أهداف وطنية محددة أولها التنمية الواسعة وخاصة التنمية البشرية المتمثلة في التعليم والتطوير الاقتصادي. لم يتردد في الإعلان في خطاباته الطويلة عن أولوياته تلك والتأكيد أن الديمقراطية لم يحن وقتها بعد.
لقد جعل من دراسته في فرنسا وثقافته السياسية وتعليمه القانوني وتجربته في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، خرائط برنامجه السياسي الذي كان يصفه بالواقعية العملية. نجح بورقيبة في تأسيس دولة بها الكثير من قواعد التحديث خاصة في المجال الاجتماعي والتعليمي. في الميدان الاقتصادي لم يحقق نجاحاً يوازي ذلك الذي تم في المجالات الأخرى. المحاولات الاشتراكية وخاصة تلك التي عُرفت بالتعاضديات التي قادها أحمد بن صالح جرّت على البلاد كوارث حقيقية. حاول الوزير الأول الهادي نويرة أن يحاصر آثارها الواسعة ولكن قدرات البلاد الاقتصادية المحدودة لم تساعد على تجاوز ما خلّفته سياسة التعاضديات من سلبيات. الهبَّات الشعبية المتكررة بسبب الضائقة الاقتصادية التي عاشتها البلاد رافقت البلاد لسنوات طويلة، لكن المجاهد الأكبر استطاع بمساعدة بعض الدول أن يبني جسوراً متحركة لتجاوز تلك الهبّات وآثارها. الزمن هو الجيش الذي لا يقهره سلاح السياسة أو القوة. في ثمانينات القرن الماضي بدأ الوهن يحاصر الزعيم، وظهرت في القصر الرئاسي قوة جديدة، تراجع تأثير السيدة الأولى وسيلة بن عمار التي رافقت الرئيس بورقيبة سنوات طويلة وكانت مستشارة سياسية بكل معنى الكلمة، تتواصل مع السياسيين في الداخل وتقيم علاقات مع ساسة الدول العربية والأجنبية ونجحت في تحقيق التوازن بين الرئيس وشبكة الحكومة. في أواخر أيام بورقيبة هبت رياح جفوة بين الرئيس الذي حط الزمن ثقله على جسده وعقله والسيدة الأولى وسيلة وبرز دور السيد منصور السخيري وزير شؤون الرئاسة وكذلك السيدة سعيدة ساسي ابنة أخت الرئيس.
هاجس الأمن لم يعد مجرد شكوك تحركها التقارير اليومية بل تحول إلى محرك يوجه الحياة بكل مفاصلها. للمرة الأولى التي يضع فيها بورقيبة رجلاً عسكرياً على رأس حكومته هو الجنرال زين العابدين بن علي الذي شغل قبل توليه منصب الوزير الأول مواقع عسكرية وأمنية من بينها وزارة الداخلية ومسؤول الأمن. لم تكن لدى زين العابدين جرعة الثقافة التي تشربها أغلب خريجي مدرسة المجاهد الأكبر الذين عملوا معه لسنوات بعقلية التأسيس التي لونتها قوة التعليم وخطوط السياسة الواقعية والوسطية والتوافق في ظل أبوة بورقيبة. غاب الكثير من الشخصيات ذات العيار السياسي والثقافي الثقيل. في سنة 1987 أعلن زين العابدين من موقعه كرئيس للوزراء عجز بورقيبة صحياً عن ممارسة مهامه الرئاسية ونصَّب نفسه رئيساً للبلاد وشرع في إجراءات أمنية ضد القوى والأصوات التي لها توجهات غير موالية له، رغم أنه سمح لبعض الأحزاب بممارسة نشاطها لكنه أبقاها تحت رقابة وتضييق وأسكت بعض وسائل الإعلام التي ارتفعت أصواتها في وجه سياساته. لقد نجح في البداية في تحقيق خطوات اقتصادية كبيرة ولكن هراوتين بدأتا في ضرب كرسيه الرئاسي وهما، القبضة الأمنية المبالغ فيها خاصة بعد تصاعد واتساع التيار الإسلامي وكذلك القوى اليسارية، والثاني الفساد الذي صار حديث الخاصة والعامة في تونس وطال الحلقة العائلية القريبة منه. تونس التي تأسست على يد أب مهندس خاص هو الحبيب بورقيبة الذي رغم قبضته السلطوية اعتبره التونسيون الأب الذي يسهر على رفعة البلاد وتقدمها وإن استخدم أحياناً قبضته من أجل مصلحة الأبناء. لا يختلف اثنان على نزاهة الحبيب بورقيبة ونظافة يده. طلب مرة من ابنه الحبيب الذي كان يشغل حاكم المصرف المركزي التونسي أن يشتري له حذاء بسيطاً مثل الذي يستعمله العمال، قام الابن بذلك، في يوم قابل بورقيبة أحد الوزراء ونظر إلى الحذاء الذي ينتعله الوزير وهو مماثل لحذاء الرئيس الذي اشتراه له ابنه وسأله عن ثمنه فقال الوزير، عشرون ديناراً، وكان الحبيب الابن قد قال لأبيه إن ثمن الحذاء الذي اشتراه لوالده هو خمسة دنانير فقط. استدعى الرئيس ابنه وقال له غاضباً: أنت كاذب ولا تصلح لقيادة المصرف المركزي، وقام بفصله فوراً. بعد اندلاع ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 التي عرفت بثورة الياسمين غادر بن علي البلاد ومرت البلاد بمرحلة انتقالية إلى أن وصل إلى سدة الرئاسة أحد رجالات المدرسة البورقيبية الباجي قائد السبسي واختط سياسة ترتكز على احترام مطلق للدستور والتصالح والتعايش مع الآخرين بكل أطيافهم السياسية والآيديولوجية. أعاد إنتاج مرحلة بورقيبية تستوعب الجديد في تونس مع دفع مسيرة المدنية وخاصة فيما يخص المرأة. كانت مرحلة الرئيس زين العابدين بن علي برزخاً جافاً في مسيرة تونس، لم تؤسس لحالة سياسية وحياتية لها شخصية ذات خرائط محددة المعالم على المستويين السياسي والاجتماعي. السؤال اليوم وتونس على بوابة انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، هل سيكون القادم بعد البورقيبي المجدد الباجي قائد السبسي من ذات المدرسة التي أسسها المجاهد الأكبر أم ستدخل البلاد حالة جديدة برأس جديد وعقل ورؤية مجددة؟
النظام في تونس أقرب إلى البرلماني في بلاد بها أكثر من مائتي حزب سياسي تقدم عشرة منها حتى الآن بمرشحين لها في الانتخابات البرلمانية القادمة من بينهم راشد الغنوشي زعيم حزب «النهضة» الإسلامي في إحدى الدوائر بضواحي تونس الشعبية. وهناك حديث عن ترشح عدد كبير للرئاسة من بينهم يوسف الشاهد رئيس الحكومة وزعيم حزب «تحيا تونس» وعبد الكريم العزابي وزير الدفاع ونبيل القروي رجل الأعمال المعروف، أما كمال مرجان وزير الدفاع والخارجية الأسبق فلم يؤكد ترشحه بعد، ولا حديث عن حافظ الباجي قائد السبسي مدير حزب «نداء تونس». آخر المعلومات تفيد بتقدم ثماني شخصيات للترشح لمنصب الرئاسة بعد فتح باب الترشيح يوم أمس الجمعة. كانت الانتخابات البرلمانية في تونس تسبق الانتخابات الرئاسية ويكون لنتيجتها انعكاس على الأخيرة، في هذه المرة وبسبب رحيل الرئيس تحكم الدستور في مسار الانتخابات الذي عكس المسار.
تونس لم تزل في انتظار خريطة التحالفات بين القوى السياسية التي سترسم خطوط خريطة تونس القادمة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تونس القادمة تونس القادمة



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon