توقيت القاهرة المحلي 20:12:13 آخر تحديث
  مصر اليوم -

وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة

  مصر اليوم -

وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة

بقلم: عبد الرحمن شلقم

الزمن كانَ وسيبقى العدوَّ الأبديَّ للإنسان، لكن عداوة الشعراء له لها بداية بلا نهاية. حاربوه خيالاً وحاربهم محناً ومرضاً وغربة، وفي الجولة التي حددها هذا الطاغية، دقَّ رقاب العظماء من أباطرة السلطة والإبداع والمال والجمال.
الشاعر المغني شكسبير، غاص في أزمان الناس، كبارهم وصغارهم، طاف في دخائل الملوك، تسلل إلى ظلام حاشياتهم إلى هواجس أولادهم وبناتهم، سلَّط عليهم سيوف الزمن ورياح الحوادث، ماتَ من مات وقُتل من قُتل. كان الزمان هو الآمر في كل حكم.
كتب شكسبير المآسي الكبيرة في مسرحيات لا تتقادم ولا تشيخ.
الملك «لير» لا يغادر الدنيا، يعيش في تجاويف كل نفس بشرية، أما مكبث فهو العيون والمشاعر التي لا تغفو. كل مآسي شكسبير، آهات وتنهيدات لا تفارق البشر. صارع الزمن في «عطيل» في لعبة قدرية من نسيج الغيرة والجنون، كان الزمن هو الفاعل من وراء الأقدار.
في كل أعماله كان شكسبير الشاعر والحكيم الساخر والعاصف. لكن وعاء المسرح كان يضيق على دفق الشاعر الكبير، استدعى قالباً شعرياً فريداً هو قالب «السونيت» the sonnet الذي وُلد في القرون الوسطى، له قواعده الخاصة في التقفية والموازين. في «السونيت 16» أعلن معركته مع الزمن: لكن لماذا لا تجد سبيلاً أقوى لتحارب هذا الطاغية السفَّاك (الزمن) وتحصِّنْ نفسك في مسارك نحو الفناء بوسائل مباركة أكثر من قوافيّ العقيمة (ويليام شكسبير السونيتات الكاملة... ترجمة كمال أبو ديب).
لقد اقتنع الشاعر أن الصراع مع المفردات المتنوعة من ثروة وسلطة، ومؤامرات القصور، لها تكوين غير مفردات الزمن الخام، الزمن الذي لم يُدلق في خضم المدارات الإنسانية، ولهذا ركض إلى ذلك القالب النادر «السونيت». في هذا القالب حارب الشاعر الزمن الذي وصفه بالسفاك الطاغية، حاربه على أكثر من جبهة، لكنه في الختام اعترف بضعف الإنسان أمام هذا الطاغية الغالب الذي لا يُغلب، لم يرفع يديه مستسلماً، عن السلاح «الفتَّاك» القادر على قهر الطاغية السفَّاك، وإنما طاف بين الخيال والجمال، ارتفع وانخفض مع العقل والحلم يطوف حول الطاغية (الزمان)، يضع أمامه عشرات المرايا، كي يراه في كل تجلياته السلطوية القاهرة؛ فعله في الجمال وكيف يلتهمه ويجعله قبحاً مرعباً.
تجربة فريدة في حجم تفرد ويليام شكسبير في كل إبداعه وتجلياته، وضع مدارج البشر وصيروراتهم تحت أشعة الزمان الذي أعطاه رتبة «الطاغية». يقول في السونيت 30:
حين أستدعي إلى خلوات الأفكار الحلوة الصامتة ذكريات ما مضى من أشياء، أتحسَّر على أشياء كثيرة سعيتُ إليها ولم أنلها وأندب وقد تجددت ويلات قديمة، كلُّ غالٍ عليَّ دمَّره الزمن.
يطوف ويليام شكسبير، في سونيتاته بين غزوات الزمان ومعاركه التي لا يقهره فيها قاهر، يصرع غريمه الوحيد الضعيف دائماً أمامه وهو الإنسان الضعيف، يلاحقه بالدمار يقتطع منه في كل حين شيئاً من كيانه، جماله، قوته، نظره، سمعه، إلى أن يأخذه كله إلى حفرة الظلام الأبدي. لكن أمام هذا الطاغي السفَّاح السفَّاك الذي لا يُقهر (الزمان)، هل لا سبيل إلا الاستسلام؟
قبل شكسبير بقرون كثيرة خاض شكسبيرنا العظيم ـ الشاعر ـ معاركه مع الزمن «الطاغية». لقب الإنجليز ويليام شكسبير بالشاعر المغني، وقبلهم، أطلق أبو العلاء المعري على المتنبي رِفعة «الشاعر». فلم يطلقها على أحد سواه، ولم يكن يذكر اسم المتنبي قبل هذه الرفعة أو بعدها. فهو يراه وحده من يحتكر هذه الصفة أو «الرِفعة». هل المعركة الكبرى مع الطاغية الأكبر ــ الزمان ــ هي من وحَّد هذين العملاقين رغم البعد الزماني والمكاني؟ هل الزمان هو العدو الأبدي للعظماء؟! قد يكون الأمر كذلك، فهؤلاء يركبون الصعب دائماً، الصعب الفكري والخيالي أيضاً، يبحرون في أعماق الأشياء والناس، يحاورون من لا يحاور، يجوسون في الأنفس والكيانات، والزمن دائماً هناك يصهل ويفعل، يمهل ويقتل. المبدعون الكبار من مفكرين وفلاسفة وشعراء يرون ذلك الطاغية السفَّاك رأي العين، هو يطلق عليهم ناره العاتية الحارقة، وهم يطلقون عليه رؤيتهم الخارقة، وتستمر المعركة.
الخاسر على أرض المعركة دائماً هو الإنسان، هو الراحل والزمن هو الباقي المقيم. لكن الأهم بالنسبة للمبدع، أن لا استسلام.
المتنبي أعلن الصدام مبكراً مع الغريم الأزلي، بدأت المواجهة مع الزمن مع بداية الرفقة مع الشعر، قال وهو فتى يافع:
ولو بَرَزَ الزّمانُ إليَّ شَخصاً
لخَضَّبَ شعرَ مَفرِقِهِ حُسامي
وما بَلَغَتْ مَشيئَتَها الَّليالي
ولا سَارَتْ وفي يَدِها زِمَامي
ولم تتوقف معارك المتنبي مع الزمان، كان يراه في كل شيء، هو عدوه الذي حرمه الوصول إلى حلمه وبغيته.
خاطب المتنبي الزمان في مناسبات شتى، وبدرجات عالية من صوت الصدام، وبلسان الحكمة والحزن أو الشجن أحياناً، وفي كل قول ومناسبة، كان يضع الزمان أمامه في حلبة العداوة متعددة الوطيس. يلقي عليه بيانات العداوة حِكمة أحياناً وأحياناً بلغة العتاب، وكثيراً بلغة غاضبة متحدية. قال في رثاء أخت سيف الدولة:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً
شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
فَلا تَنَلْكَ اللّيالي، إنَّ أيْدِيَهَا
إذا ضَرَبنَ كَسَرْنَ النَّبْعَ بالغَرَبِ
وَرُبَّمَا احتَسَبَ الإنْسانُ غايَتَهَا
وَفاجَأتْهُ بأمْرٍ غَيرِ مُحْتَسَبِ
في قصيدة الرثاء هذه يقرأ المتنبي الزمان بعين «حكمة» القدر فيخاطب الزمان بلسان الحقيقة القاهرة. لكن في محطات أخرى يصعِّد صوت العلو إلى حد الغلو مترفعاً على ملك الأهوال قائلاً:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ
ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
ضاقَ ذَرْعاً بأنْ أضيقَ بهِ ذَرْعاً
زَماني واستَكرَمَتْنِي الكِرامُ
هنا يلبس الشاعر عدة حرب أخرى للمواجهة، أقصد الترفع عن الزمن، الذي يراه قد انهزم مسبقاً في المواجهة، ففي البيت الأول يكون الزمان نداً، لكن في البيت الثاني، يعلن المتنبي، أن الزمن تعب أن يتعبه. إذا حقق النصر.
رأيت دائماً في هذا البيت كتلة المتنبي النفسية العفوية الحقيقية، ففيه من الترميز والتركيز ما يجعلنا نوقن أن هذا البيت ليس من دفقات تجليات الأنا العفوية التي يفتتح بها المتنبي مدائحه. في البيت الأول «مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ»، يضع الشاعر قاعدة عابرة - للزمن - تضع الأساس لما بعدها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon