بقلم: عبد الرحمن شلقم
أطل أمل باهر من أديس أبابا عندما اعتلى الشاب آبيي أحمد كرسي السلطة في إثيوبيا رئيسا للوزراء، وانطلق بسرعة هائلة على طريق إصلاح واسع وجريء. أطلق السجناء السياسيين ومارس سياسة العفو العام. اندفع في سياسة تنمية شاملة في جميع أنحاء البلاد متجاوزاً الاعتبارات الجهوية. نجح في فترة قياسية في أن يحقق السلام مع جيرانه الذين طالت سنوات العداء والحساسية معهم وأولهم إريتريا وكذلك الصومال والسودان. استطاع أن يبدع رؤية واقعية تهدئ من الانشغالات المصرية حول سد النهضة الذي يهدد تدفق مياه النيل إلى أرض مصر. لم يتوقف عند ذلك بل سارع إلى محاولة إيجاد مخرج للأزمة السودانية بعد إسقاط نظام البشير. صار الشاب آبيي أحمد ضلعاً مضافاً إلى مثلث الأساطير الإثيوبية، فهو المسلم الذي ينتمي إلى طائفة الأورومو ومن القيادات الثورية التي ساهمت في تأسيس إثيوبيا الجديدة بعد إسقاط نظام الديكتاتور منغستو هيلا مريام. لكن الأساطير تحمل دائماً في تلافيفها المتفجرات التي تبدع توقيتاتها. فبعد تعرض رئيس الوزراء الشاب إلى عدد من محاولات الاغتيال مدَّ الانقلاب يده مرة أخرى في محاولة تهدف إلى إعادة البلاد إلى ما خلا من السنوات. أحد الضباط الذين أفرج عنهم أحمد بعد اعتقاله في محاولة انقلاب سابقة، ينزل إلى ملعبه مرة أخرى ويخطط ويبدأ التحرك. الخطوة الأولى اغتيال رئيس الأركان وعدد من مساعديه وآخرين. فشلت المحاولة، لكنها كتبت الكثير من الأسئلة.
إثيوبيا أرض ولدت من رحم التاريخ والأسطورة والنيل. فسيفساء الأرض والناس والعقول. ساقتني السياسة إليها في مطلع ثمانينات القرن الماضي ممثلاً شخصياً لليبيا في شرق أفريقيا، إثيوبيا والصومال وكينيا. كان المقدم منغستو هيلا مريام القائد العسكري الذي ارتدى الشيوعية سياسة وفكراً وتحالف مع الاتحاد السوفياتي وكوبا اللذين قدما له مساعدات عسكرية ومالية في حربه مع الصومال وفرض سيطرته المطلقة داخل البلاد.
كان فيديل كاسترو الزعيم الثوري الكوبي الطوطم الذي تلبسه. علق في أكبر ميدان بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا صور ماركس وانجلز ولينين حيث يلقي خطاباته الطويلة التي يحشد لها الناس عنوة بوجوه شاحبة وبطون فارغة، هناك من وصف ذلك المشهد بأنه حفلات تعذيب جماعية.
حظر التجول يبدأ من الساعة العاشرة ليلاً إلى السادسة صباحاً، أما الحظر على الغذاء فهو لا ساعات له. لم يكن لدى المقدم منغستو سوى أحلام خيالية ينشرها وسط الميدان الشيوعي ووسائل إعلامه الباهتة. جرت محاولات عدة لإقامة تحالف بين ليبيا واليمن الجنوبي الشيوعي وإثيوبيا لمواجهة السياسات الغربية في شرق أفريقيا لكن الخلافات بين أطراف هذا التحالف كانت أكثر مما يجمع. دعم قوى المعارضة الصومالية وكذلك القوات السودانية الجنوبية بقيادة جون قرنق والموقف من عدد من الأنظمة الأفريقية ألقى بثقله على أطراف هذا التحالف الثوري المثلث وكانت الآيديولوجيا اليسارية الطفولية لدى منغستو كفيلة بتمييع أي تفعيل لهذا المسار السياسي. منغستو العسكري الإثيوبي الأمهري يعكس حالة أكثر من شخصية بل هي تحمل تعبيراً عميقاً وواسعاً عن الفسيفساء الإثيوبية في كل شيء، الحلم والوهم والتشتت والطموح الذي لا أفق له ولا حدود، وكذلك الاعتزاز المفرط بالوطنية الإثيوبية وفي ذات الوقت الظهور بوجه أممي شيوعي متشدد عابر للحدود والتاريخ. قابلته مرات عديدة وطويلة لكن لم تتحرك بيننا أي كيمياء سياسية أو إنسانية، يتشبث برأيه ولا يتردد في تكرار إصراره على قمع كل من يعارضه لأنه كما يقول يمثل إرادة الشعب ولا بد من افتكاك حقه من الرأسماليين المستغلين.
إثيوبيا بقدر ما هي إنتاج الجغرافيا والتاريخ والأديان فهي السنابل البشرية للأسطورة التي ولدت من كل تلك المكونات، فقد كان للأشخاص دور في رسم خطوط مسارات الحياة عبر القرون. المشاهد الساخنة التي لا يزال فعلها يؤثر في حياة البلاد تحركت منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي الذي قاد البلاد في عصر قاري ودولي متحرك. هو الملك الإمبراطور الذي صنع أجداده عروشهم من قصة بلقيس وسليمان، ولم يغب من رفعه إلى درجة التأليه. الحركة الرستفارية الروحية التي ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي في جامايكا اعتبرت الإمبراطور هيلا سيلاسي المسيح الأسود، وآمنوا بقدرته الإعجازية على تغيير أفريقيا وتطويرها واعتبروه من سلالة بلقيس وسليمان وهناك من اعتبر تلك الحركة ديانة جديدة. الإمبراطور هيلا سيلاسي هو الضلع الثاني في الأسطورة أو التراجيديا الإثيوبية حيث سبق الضلعين الآخرين، المقدم منغستو هيلا مريام وآبيي أحمد الذي كان الضلع الثالث. سيلاسي عاش أحداثاً استثنائية، فقد قامت إيطاليا باحتلال إثيوبيا سنة 1935 وهرب الإمبراطور إلى بريطانيا. كان الاستعمار الإيطالي الفاشي رهيباً ارتكب فيه الفاشيون مذابح مرعبة.
كانت مقاومة الإثيوبيين بأسلحتهم شبه البدائية عنيدة، وأصر الإيطاليون على إرغام الشعب المسيحي الأرثوذوكسي القبطي على التحول إلى المذهب الكاثوليكي، لكن الغالبية الساحقة من الإثيوبيين رفضوا ذلك بقوة مما كلفهم آلاف الضحايا. بعد هزيمة إيطاليا عاد الإمبراطور للجلوس على عرشه الذي كان تحته ملايين القنابل. التنوع العرقي والديني واللغوي والفقر الذي يلتهم البشر. سيطر الإمبراطور المنتمي إلى الطائفة الأمهرية التي فرض لغتها على كل البلاد، واستعان برجالها في أغلب دواليب الدولة الإدارية والجيش والشرطة، وقام بضم إقليم إريتريا إلى إمبراطوريته. لكنه استطاع أن يقدم نفسه كأحد القادة الأفارقة الذين لعبوا دوراً مهماً في مقاومة الاستعمار والميز العنصري. أصبحت أديس أبابا مقراً لمنظمة الوحدة الأفريقية أول جسم قاري يجمع أفريقيا المتحررة في منظومة تنسق عملها وخاصة في دعم البلدان التي تقع تحت نير العنصرية البيضاء.
الإمبراطور في رحاب شيخوخته يُطاح به في انقلاب عسكري ويقتل. وضع المقدم منغستو جثته تحت كرسيه في القصر الرئاسي خوفاً من أن يتحول جثمانه إلى طوطم مقدس يشعل أرواحاً قريبة وبعيدة. لكن الثورات لا تشعلها الجثث فقط. الظلم هو الشرارة الأخطر، فقد ولد تكتل من أغلب الأعراق في حركة مسلحة استطاعت إسقاط الديكتاتورية العسكرية الشيوعية وبدأت رحلة بناء الدولة الجديدة.
بعد سنوات من رحيل الإمبراطور والمقدم الماركسي ورئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي، جاء عصر آخر يقوده شاب حالم فتح كل الأبواب لكل الطوائف، وفتح الحدود مع كل الجيران، واتخذ من الديمقراطية محركاً للتعايش والتنمية. لكن ألغام الأسطورة التي تكمن في الأرض والناس والتاريخ لا ترحل مع رحيل الأباطرة والعسكر. إثيوبيا تبقى في مهب كل الأسئلة وألغام الأساطير.