بقلم : عبد الرحمن شلقم
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لا يتوقف عن فتح الجبهات بلسانه وحروفه اللاهبة فوق مساحة «تويتر». من إلغاء الاتفاق السداسي مع إيران، إلى حملة العقوبات - الخلاقة - على الحلفاء والفرقاء. وتفجير صرخة الخطر حول اتفاقية الأسلحة الذرية مع روسيا.
معركته الجديدة اليوم تأتي في زمن النار الأميركي، أي أسبوع الانتخابات النصفية للكونغرس. انتخابات متعددة المسارات والمحطات. فيها الخضم الذي يحمل عصا السلطة، فالديمقراطيون يعولون على تأهيل قوتهم لانتزاع القرار في حالة حصولهم على الأغلبية في هذه الانتخابات الحاسمة، فهي قادرة على إعادة تشكيل خريطة القوة في القرار السياسي والاقتصادي والأمني الأميركي.
الرئيس ترمب يتخذ من برنامجه الانتخابي كتاباً يهتدي به في سياسته، ويستضيء به وهو يخاطب طيف ولايته الثانية.
لقد كان ملف الهجرة إلى الديار الأميركية بكل أشكالها، إحدى كلمات السر التي تواصل عبرها ترمب مع مريديه في حملة الانتخاب التي أوصلته إلى سدة الرئاسة. شعار «أميركا أولاً» يجعل من قضية الهجرة الصدى الوطني الأكبر لذلك الشعار. تعالت صرخات الرئيس بلا توقف، وكانت خطة بناء الجدار على حدود الولايات المتحدة مع المكسيك صدمة الشعار الكبيرة، «أميركا أولاً»ـ
جحافل الغزو القادمة من أميركا الوسطى، دفعت الرئيس إلى أن يعلن حرباً غير مسبوقة بين طرفين غير متكافئين. آلاف الجياع الهاربين من العوز والقمع، لا قوة تحملهم سوى طاقة اليأس التي تقذفهم إلى خارج أوطانهم، وعاصفة الحلم التي تحرك أقدامهم الحافية نحو بريق الأمل الذي يرون لمعانه بعيون زائغة، وهو ينبعث من ناطحات السحاب البعيدة. عندما يختلط اليأس والإحباط بهاتف الأمل، تصبح المغامرة هي الناقل السحري الذي يحرك النفوس، ويشحن الأقدام، فتندفع نحو المقصد المأمول.
الأيام الانتخابية الحساسة، يرافق إيقاعها خطوات القادمين الذين يرى فيهم الرئيس ترمب جيشاً يهدد أميركته، التي هي بالنسبة له الأولى والأخيرة. يعلن تعبئة ربع أو نصف عامة، تجهيزاً لموقعة المواجهة مع الغزاة الحفاة. الأصوات في داخل أميركا تتعالى، وتجعل لتلك المواجهة جيشاً من الكلمات التي تتخذها قوة لخوض معركة موازية مع الحزب الجمهوري.
الأحداث تتكدس بعضها فوق بعض، الهجوم القاتل الذي شنه أحد المتعصبين اليمينيين على المعبد اليهودي في الأيام الماضية، وجد فيه قادة الحملة الانتخابية القادمة حطباً إضافياً يجزي النار المواجهة للرئيس وحزبه، إذ وجد المحققون في بيت الجاني بعض النصوص من خطابات الرئيس، واعتبرتها بعض وسائل الإعلام تمثل تحريضاً على معاداة الآخر. الضجة التي استقبل بها اليهود الرئيس ترمب عند زيارته للمعبد الذي شهد المجزرة، جرى توظيفها في معركة الانتخابات النصفية.
أعلن الرئيس أنه سيعمل على تعديل تشريع الحصول على الجنسية الأميركية بمراسيم رئاسية، وهذا يخالف صراحة الدستور الأميركي الذي يمنح الجنسية لكل من يُولد فوق الأرض الأميركية، بالإضافة إلى ما وقر في وجدان الأميركيين، أن بلادهم هبة الهجرة، وأن الرئيس وزوجته هما من سيل الهجرة الذي لم يتوقف تدفقه يوماً عن أميركا. الحشود المندفعة من أميركا الوسطى عبر المكسيك تمثل ظاهرة جديدة في تاريخ الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتأتي في عهد يقوده رئيس جعل من مواجهة الهجرة مرتكزاً أساسياً في حملته الانتخابية. لم يخف تشخيصه للجحافل القادمة، ومن بينهم نساء وأطفال، فقد اعتبرهم غزاة، وأعلن عن تعبئة أكثر من خمسة آلاف جندي لمواجهتهم؛ بل هدد بدخول قواته إلى أراضي المكسيك لمنعهم من دخول الولايات المتحدة.
لا شك أن تقدم هذه الجموع وبهذه الطريقة العلنية، يجعل كثيراً من الأسئلة تقرع الضمائر، وتطرح أسئلة متعددة ومركبة ومعقدة. كيف يغامر هؤلاء بترك أوطانهم وحمل أطفالهم، ويعبرون الأحراش وحتى الأنهار بلا زاد. يتحملون وهج الشمس، ويدخلون في مجهول المغامرة، وهم يعلمون سخونة الموقف الرسمي الأميركي الذي وصل إلى حد مواجهتهم بقوة مسلحة.
ما يجري بين مساحات أميركا الوسطى من قمع وتجويع للشعوب المنهكة، يحتاج إلى وقفة إنسانية عابرة للحدود. فإذا كانت ظاهرة الهجرة غير القانونية تهز مناطق كثيرة في العالم، ومن بينها البلدان العربية والأفريقية، وتحيلها إلى ورقة سياسية قبل أن تكون إنسانية في أوروبا، فإن ما نراه اليوم، هو جزء من كيانات تنشق عن جسد أوطانها، وتتحول إلى أشياء يدحرجها الجوع والرعب نحو أرض لا تخلو حدودها من تهديد الرعب الذي يهربون منه.
ما هو المشهد القادم على الحدود الأميركية المكسيكية، أو حتى داخل أراضي المكسيك ذاتها؟ هل ستقوم القوات الأميركية بالتعامل العنيف مع حشود لا عتاد لها سوى المغامرة نحو حلم يرفع لهم الرايات الحمراء؟ وماذا سيكون الموقف المكسيكي الرسمي والإنساني؟ والسؤال الأكبر هو: ماذا سيكون الموقف السياسي الأميركي؛ خاصة في خضم المعركة الانتخابية النصفية للكونغرس؟ ما هو رد الفعل الإعلامي؟ هل سيكون للغزاة الحفاة تأثير على مسار الحملة الانتخابية؟ فالهجرة بلونها الإنساني، وارتداداتها على البرامج المالية، ملف داخلي بامتياز. ولا يمكن تجاهل حزمة من المؤثرات الموازية على مسار هذه الانتخابات الحساسة، في ظل رئيس يصدع علانية بكل ما يدور بعقله، ويخوض معارك متواصلة على أكثر من جبهة. ترشيحه لقاض بالمحكمة العليا وجهت له تهم بالتحرش بثلاث نساء، أثر في المزاج الانتخابي النسائي إلى حد كبير، ولن يكون بعيداً عن صناديق الاقتراع.
الأيام القادمة ستقول الكثير في داخل أميركا وخارجها.
الهجرة أصبحت جبهة معارك عالمية تطال كثيراً من الدول في كل القارات. هل يمكن أن يصار إلى خطة عالمية تضع برامج تنمية لدول المصدر؟ كانت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مصدراً للهجرة نتيجة الدمار والمعاناة. مشروع مارشال ساهم في تأسيس وتأهيل مجتمعات جديدة. المبادرات الصينية الاستثمارية في أفريقيا تقدم نموذجاً إيجابياً. قدمت المستشارة الألمانية ميركل في الاجتماع الأفريقي الألماني مؤخراً، مقترحاً في السياق ذاته. الولايات المتحدة الأميركية بإمكاناتها المالية الهائلة تستطيع أن تعد «مشروع مارشال» جديداً للدول التي يزحف منها الحفاة، لإقامة مشروعات إنتاجية بها تستوعب آلافاً من الشباب المندفعين نحو أراضيها، وتكون المعركة بلون آخر، معركة ضد الجوع، وكذلك ممارسة الضغط بالقوة الناعمة على الأنظمة، لانتهاج سياسات مرنة، من أجل خلق مناح مبتكر، لرفع المعاناة عن شرائح واسعة من الشباب اليائس.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع