توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

في مختبر كيمياء الثورات

  مصر اليوم -

في مختبر كيمياء الثورات

بقلم: عبد الرحمن شلقم

الثورة، كلمة صُبَّ في حروفها القليلة الكثير من الأقوال منذ طفحت على مسرب الحياة في الكثير من بلدان العالم، وبخاصة في أوروبا. في البلاد العربية ترعرع اسم الكلمة مع قفزات الانقلابات العسكرية. في البداية لم يتردد الكتّاب والصحافيون عن إطلاق كلمات مختلفة على الحركات العسكرية التي تحمل ثلة من الضباط إلى الحكم. في اللغة الفارسية تستخدم كلمة انقلاب بمعنى الثورة. وفي بعض الحالات تم استخدام كلمات مثل حركة التصحيح أو الإنقاذ وغيرهما. كلمة انقلاب أخذت معنى تآمرياً مضاداً للشرعية، ولهذا دأب العسكريون على إعطاء عنوان لحركاتهم وهو الثورة. في الكثير من الحركات العسكرية في البلاد العربية تم وضع وصفة - روشتة - تضمن وضع لحاف الثورة على الانقلاب الذي ينفذه عسكريون على السلطة القائمة والاستيلاء على كرسي الحكم عنوة وبقوة السلاح. مضمون تلك الوصفة مجموعة من الشعارات أو السياسات تتمثل في، الوحدة العربية، دعم القضية الفلسطينية، معاداة الإمبريالية، الاشتراكية، التقارب مع الاتحاد السوفياتي والتصنيع الثقيل.
تعلن الحركات العسكرية عن نفسها عبر ما عرف بالبيان الأول الذي ينطلق في الصباح الباكر من الإذاعة الوطنية الرسمية، وتنهال بعدها أصوات التأييد للحركة. يتضمن البيان الأول للحركة كلمات صارت نمطية تتحدث عن فساد النظام المطاح به وأهداف القادمين الجدد لتحقيق رغبات الشعب في العدل والتقدم وإزالة المظالم وتحرير فلسطين... إلخ. تختلف الدوافع والأهداف من حركة إلى أخرى ونجاحاتها وإخفاقاتها، وكذلك مآلات تلك الحركات العسكرية وما انتهت إليه من صراع بين قياداتها والتي لم يغب الدم عن الكثير منها، لكن عنوانها بقي دائماً هو، الثورة.
سؤال «الثورة» دوافعها ومحركاتها ولنقل، تشريح كيانها في البلاد العربية، شابه الكثير من الخلل وغابت عنه في حالات كثيرة المعايير العلمية الموضوعية لأسباب عدّة، من أهمها الاصطفاف الآيديولوجي والسياسي وغياب المعايير العلمية وعمق الدراسة الأكاديمية وحتى الفكرية العميقة. ما شهدته بعض البلدان العربية في بداية العقد الثاني من هذا القرن وأطلق عليه أكثر من عنوان، الربيع العربي، ثورة شعبية، تمرد، مؤامرة، فتنة، صراع على السلطة وغيرها، لم يحظ بدراسة علمية تشريحية تغوص في أعماق الحدث، بل كانت المعالجات أقرب إلى الانطباعية والصحافية ذات الألوان السياسية والمصلحية.
أستاذان أكاديميان ليبيان هما الدكتور مالك عبيد أبو شهيوة والدكتور محمود محمد خلف قاما بترجمة كتاب عنوانه - ثورات أواخر القرن العشرين - ساهم في تأليفه كوكبة من أساتذة علم الاجتماع والسياسة. نشرت الترجمة في طبعتها الأولى سنة 2003، أي قبل ما شهدته بعض البلدان العربية من حراك بسبع سنوات تقريباً. قال المترجمان في مقدمتهما للمجلد: إن فكرة نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية نبعت أساساً من دراسة تحليلية ونظرية قمنا بها حول «الثورة في النظرية السياسية: نحو دراسة علمية للثورة». مضمون الكتاب كان فحص عشر حركات ثورية مؤيدة شعبياً في الثلث الأخير من القرن العشرين، سبع منها أسقطت النظم القديمة وكان لها تأثير على السياسات الإقليمية والدولية. المفارقة كأن هذا الكتاب تم تأليفه بالأمس القريب حول ما يحدث بين ظهرانينا. المحررون للكتاب قاموا بتحليل، بل تشريح عشر ثورات شهدها العالم أواخر القرن العشرين في بلدان مختلفة من العالم، وهي: فيتنام، نيكاراغوا، إيران، بولندا، أفغانستان، الفلبين، كمبوديا، زيمبابوي، جنوب أفريقيا، وأضاف المؤلفون فصلاً عن الانتفاضة الفلسطينية في سنة 1987. غاية المؤلفين الوصول إلى عصارة علمية موضوعية تستخرج من تلك الثورات التي شهدتها بلدان متباعدة جغرافياً ومتنوعة ومختلفة عرقياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً وفكرياً، تستخرج إطاراً نظرياً علمياً للثورة من كل جوانبها، ونستطيع القول إن المترجَمين في المقدمة للكتاب أضافا له عمقاً وبعداً بالمساهمة في إلقاء ضوء على الدلالات والمفاهيم التي تحكم مسار الدراسة الواسعة؛ إذ فسحا مساحة واسعة في المقدمة لمعالجات قدمها دارسون لمفاهيم الثورات والانقلابات ومحركاتها. قد يكون ما جاء في تفريق العالِم جيدنيز بين الانقلاب العسكري والثورة ما يلقي ضوءاً على ما شهدته بعض البلدان في سنوات خلت. يورد الدكتور محمود خلف اقتباساً من جيدنيز: «الثورة تكتسب معنى سوسيولوجياً ولا تقتصر على تغيير القيادة السياسية». ويرى أن «الثورة لا بد أن تتضمن تعبئة جماعية شاملة، وأن تقود إلى عمليات من الإصلاحات الكبرى والتغييرات».
لقد شهد العالم ما بين 1961 إلى 1965 (48) من الحروب الأهلية والثورات، 9 منها فقط انتهت بالانتصار أو بتنازلات كبرى قدمها الثوار مقارنة بـ35 هزيمة عسكرية وعدد من الصراعات ما زالت مستمرة. وفي كل حلقة من حلقات التغيير السياسي بفعل الثورات تولد استحقاقات جديدة في مسارات اقتصادية وسياسية واجتماعية عدة، وهنا تبدأ معايير الحكم على نتاج ما حققه التغيير وهل فعلاً أنجز ما قامت الثورات من أجله. بالطبع هناك صعوبات جمة تواجه البلاد بعد نجاح حركة التغيير، فموازين ورموز القوة الجديدة تحكمها محركات وأفكار متعددة. يقول جاك غولدستون في الفصل الثالث من الكتاب ص 143 «الثورة إطاحة قسرية بالحكومة يتبعها تعزيز السلطة بجماعة جديدة تحكم من خلال مؤسسات سياسية وبعض الأحيان اجتماعية في عملية معقدة. ومع أن سقوط الحكومة ربما يكون فجأة، فالأسباب التي قادت إلى سقوطها تأتي نتيجةً للصراع على السلطة بين المكافحين والذين في السلطة، وإعادة بناء دولة مستقرة غالباً ما يحتاج إلى عقود من الزمن». يضيف غولدستون نبوءة أخرى إلى ما بعد الإطاحة بالسلطة وأخذ مجموعة جديدة لها: «عندما يكون الراديكاليون قادرين على التمكن من هذه الأرضية الآيديولوجية، من المحتمل أن ينبثقوا كقوى مهيمنة في النظام التالي أو النظام الذي يلي ذلك، وهذه الملاحظة تقترح استراتيجية للجماعات المعتدلة الباحثة عن الحياة في صراعات ما بعد الثورة. لذلك؛ هذا النموذج للصراع الثوري له القدرة على التنبؤ والتطبيق على مستوى القيادة العامة».
الدراسة الموضوعية العلمية لما حدث في عدد من البلدان العربية من انتفاضات سيأخذ الكثير من الوقت كي يدخل معمل الدراسة العلمية الموضوعية والتاريخية العميقة، لماذا؟ يقول الدكتور محمد خلف في الفصل الأول بعنوان (الثورة في النظرية السياسية، نحو دراسة علمية للثورة): «المؤرخ يكون أمامه فرصة في الوصول، بعد سنوات كثيرة إلى التقارير والوثائق والدراسات التي أعدها آخرون من المراقبين والباحثين المتدربين والمتخصصين والدبلوماسيين المحترفين. الشريحة الأخيرة بما أن وظيفتها تتمثل في جانب منها في نقل تقارير سرية لحكوماتهم، فهي في غاية الأهمية في المساعدة على تكوين الصورة المتكاملة عن الأحداث والأسباب».
إن الزمن عامل أساسي يشارك في الحفر العلمي لجيولوجيا مسار الأحداث وجذورها الاجتماعية والسياسية وحتى النفسية. لا شيء يولد من العدم، لكن الوجود الذي هو رحم الأحداث يكمن في إزالة الكثير من الغبار عن ركام ما حدث. سأل أحدهم الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عن رأيه في الثورة الفرنسية. ردَّ الزعيم بسؤال: متى حدثت هذه الثورة؟ أجابه السائل المسؤول: منذ مائتي سنة تقريباً. رد ماو تسي تونغ: من المبكر الحكم عليها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في مختبر كيمياء الثورات في مختبر كيمياء الثورات



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon