بقلم: عبد الرحمن شلقم
المشاعر، فروع في شجرة الذات، أغصانها أصابع، أوراقها حروف، تتنفس بنا ومعنا، تتكوَّن فينا، ونكون بها. أين مكان المشاعر في داخلنا؟ هل هي في العقل أم في القلب أم في الموروث الفكري؟ لا أدري إن كان هناك ما يقابلها في اللغات الأخرى.
قال الله تعالى: «إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كُلُّ أُولئك كان عنه مسؤولاً» (الإسراء 36)، وقال تعالى: «وأَصْبَحَ فؤادُ أُمِّ موسى فَارِغاً» (القصص 10)، وقال تعالى: «مَا كَذَبَ الفؤادُ ما رَأَى» (النجم 11)، وقال تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ به فُؤَادَكَ». (هود 120).
جاء في موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلامي، للدكتور رفيق العجم: «الفؤاد في القلب، وهو المقام الثالث، كمثل الحدقة في سواد العين، وكمثل المسجد الحرام في داخل مكة، وكمثل المخدع والخزانة في البيت، وكمثل الفتيلة في موضعها وسط القنديل، وكمثل اللب في داخل اللوز. وهذا الفؤاد موضع المعرفة وموضع الخواطر وموضع الرؤية، وكلما يستفيد الرجل يستفيد فؤاده أولاً، ثم القلب. والفؤاد وسط القلب كما أن القلب وسط الصدر مثل اللؤلؤة في الصدف». يضيف: «اعلم أنَّ الفؤاد، وإن كان موضع الرؤية، فإنما يرى الفؤاد ويعلم القلب».
لقد أسهب الكاتب وأطنب. طاف بين التوصيف والتشبيه، لكن لا أظن أنه وصل أو أوصل، فمفهوم الفؤاد غامض، فلا هو اسم لعضلة في داخل الجسم البشري. لقد حاول بعض المجتهدين المسلمين الذين لا يملّون من إدخال كل ما ينتجه العقل البشري من علوم واختراعات في دورق الدين والتراث.
علم البيولوجيا توسع في بحث كل ما يتعلق بالإنسان جسداً ونفساً وعقلاً. فسّر بعض المتقولين ما وصلت إليه البحوث العلمية، بالمنهج نفسه. الدراسات والبحوث العلمية التي تسابق نفسها توصلت إلى تحديد تفاصيل دقيقة لوظائف المخ البشري، فكّكت التضاريس المخِّية التي لا تكاد تُرى، وحددت مهام كل جزئية، أدوارها التحكمية في أعضاء الجسم، في الحواس، والمشاعر. قال بعض المتفقهين إنَّ تلك الدراسات أكَّدت أن الفؤاد يقع في المخ.
الشيخ المتصوف الكبير محيي الدين بن عربي أبدع معمله اللغوي الروحي، صاغ الكلمات بمداد الروح والرؤية، في أعماله الكبيرة، وفي مقدمتها كتاب «الفتوحات المكية»، و«تفسير ابن عربي»، و«فصوص الحِكم»، و«عين الأعيان»، وغيرها. قال عن الفؤاد، في تفسيره للقرآن بالجزء الأول، الآية 120 من سورة هود: «وكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ما نُثبتُ بهِ فؤادَكَ». فسَّرها ابن عربي بالآتي: «لما أطلعناك على مقاماتهم الشدائد من أمتهم، مع ثباتهم في مقام الاستقامة، وعدم مزلتهم عنه، وعلى عند تلويناتهم وظهور شيء من بقياتهم، كما في قصة نوح، من سؤال إنجاء الولد، وعلى قوة ثباتهم وشجاعتهم في يقينهم وتوكلهم، كما في قصة هود، من قوله (إِنِّي أُشهدُ اللهَ واشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، إلى قوله (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وعلى كمال كرمهم وفضيلتهم في العتو، كما في قصة لوط، من تفدية البنات لحفظ الأضياف من السوء، ثبّت قلبك في ذلك كله، واستحكمت استقامتك وقوي تمكينك بذهاب آثار التلوين عنك، وقوي توكلك ورضاك ويقينك وشجاعتك، وكمل خلقك وكرمك، وجاءك في هذه السورة الحق، أي ما يتحقق به اعتقاد المؤمنين، وموعظة لهم، يحتزون بها عما أهلك به الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به ويجعلوه طريقهم وسيرتهم، والله أعلم».
يقصد ابن عربي أن تلك الدروس الإلهية للرسول - صلى الله عليه وسلم - هي تكوين إلهي له لتصليب وتثبيت فؤاده ليواجه امتحان الرسالة. إذن الفؤاد هو بيت القوة، وحلقة الإرادة التي تصمد وتقاوم وتواجه.
وفي الجزء الثاني من تفسيره، يقوم ابن عربي بالتوقف عند معنى «الفؤاد» محاولاً تعريفه من داخل مفرداته ورؤيته الفلسفية الصوفية. فسّر الآية 11 من سورة النجم «مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى». بالقول: «الفؤاد هو القلب المترقي إلى مقام الروح في الشهود، المشاهد للذات مع جميع الصفات الموجودة بالوجود الحقاني، وهذا الجمع هو جمع الوجود، لا جمع الوحدة الذي لا فؤاد فيه، ولا عبد لفناء الكل فيها، المسمى باصطلاحهم عين جمع الذات، وأما هذا الجمع فيسمى الوجه الباقي، أي الذات الموجودة مع جميع الصفات».
نقتنع أو لا نقتنع بما قدمه ابن عربي في تفسيره لمفردة «الفؤاد»، إلا أنه يساعد المتأمل على الالتفات لوجهة أخرى، غير تلك التي تقود إلى العضلة، مثل القلب أو المخ وغيرها.
ابن عربي في تعريفه للفؤاد سما إلى «مقام الروح» إلى «الشهود المشاهد للذات»، إلى «جمع الوجود»... اندفع إلى أعماق الرؤية المتعالية، التي تفيض باستغراق اللفظ في «جمع الوجود، لا جمع الوحدة»... الذات الموجودة مع جميع الصفات.
الفؤاد لا يوجد في مكان ما في الجسد، هو في كل كيان الذات. في القلب، في العين، في المخ، في الشرايين، في الدم، في العروق. منبثّ في الكينونة الوجودية للإنسان. في الفؤاد تتجمع عصارة التجربة المستخلصة من يوميات الحياة المتراكمة. الفؤاد يخزنها في مستودع سحري سري، يوجد في كل مكان بجسد الإنسان، ولا يسكن مكاناً محدداً فيه. هو خزانة المشاعر التي راكمتها مسيرة الحياة بنسيمها وغبارها، الأرباح والخسائر تدخل جميعها معمل الفؤاد، يعيد إنتاجها في سلوك الإنسان اليومي في مشاعره، انفعالاً، وغضباً، وفرحاً، تسامحاً أو حقداً وانتقاماً.
الفؤاد هو «مجمع» الجينات التي لا يمكن إخضاعها لقوانين وأجهزة المعامل. بلغة التقنية، يمكننا القول إن الفؤاد هو الدائرة الكهرومغناطيسية الأساسية في منظومة الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، تستقبل الذبذبات وتفككها، وتعيد تركيبها كي تتحول إلى سلوك إنساني واعٍ.
هل يمكن القول إن الفؤاد هو مصنع المشاعر؟ أقول نعم. من خلال ما تقدم. لكن لكل شعور شروطاً وعوامل، خاصة عندما تتحول تلك المشاعر إلى فعل أو أكثر. عندما تتحول كيمياء التراكمات المختزنة في وعاء الفؤاد إلى دوافع فاعلة.