توقيت القاهرة المحلي 09:06:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ليبيا بين العقل الفرنسي والقلب الإيطالي

  مصر اليوم -

ليبيا بين العقل الفرنسي والقلب الإيطالي

بقلم : عبد الرحمن شلقم

التاريخ والجغرافيا والمصالح السياسية والأمنية والاقتصادية، مرتكزات ثابتة في العمل السياسي. قدر البلاد الليبية أن تكون الجغرافيا هي الورقة التي يُكتب عليها مسارها الاجتماعي والسياسي عبر التاريخ. اليوم تعاني ليبيا من صراع داخلي متعدد الألوان. صراع على السلطة والمال في غياب مستمر لتشخيص طبيعة الأزمة. تعددت الوصفات السياسية للحل دون تحديد دقيق. 

الحال اليوم كمن يعاني من مرض العينين وينقل إلى طبيب عظام أو طبيب أنف وحنجرة. ومما ضاعف معاناة المريض تعدد الأطباء الخطأ. طبيعة الصراع فوق الأرض الليبية لها خصوصية ذاتية. هل يمكن أن نصنف ما يجري من صراع في ليبيا على أنه حرب أهلية؟ الحروب الأهلية زلازل بشرية لها مقياسها الخاص، أي لها ريختر مختلف. في ليبيا لم يكن وراء المواجهات الدامية دوافع طائفية دينية أو عرقية أو جغرافية، فالشعب الليبي كله مسلم، وغالبيته سنة مالكيون، وحتى الأمازيغ الإباضية لا توجد حساسية عقدية بينهم وبين السنة. ما طبيعة الأزمة إذن؟ 

باختصار ما حدث في ليبيا بعد ثورة فبراير (شباط) هو انهيار النظام والدولة، وانتشار السلاح بشكل واسع، وامتلاكه من طرف مجموعات غير منظمة، واستعماله لأغراض مختلفة. مجموعات آيديولوجية وأخرى نفعية تهرب البشر والنفط والمواد الغذائية، ولم تتورع بعض هذه الجماعات عن استجلاب مرتزقة من الدول القريبة لتكون قوة مضافة لعناصرها المقاتلة. الجماعات الإرهابية غرست أنيابها في أطراف الجسد الليبي، وتماهت مع خرائط النشاط الإرهابي جغرافياً وآيديولوجياً خارج الحدود. الحالة الليبية اختلفت عن أخواتها في تونس ومصر وسوريا واليمن. في مصر تنازل الرئيس وبقيت الدولة بكل مؤسساتها العسكرية والبوليسية والإدارية. في تونس رحل الرئيس وبقيت الدولة بكل كيانها العسكري والإداري، في سوريا تداعت بعض أطراف المؤسسة، ولكن الهيكل العام استمر ووصله الدعم العسكري الخارجي، وتموضع على الأرض وفي الجو عسكرياً، وشكل ذلك مسارات سياسية جديدة إقليمية ودولية. 

قامت تشكيلات عسكرية في ليبيا، متنوعة بحكم الأطراف المنضوية فيها، والسمة المشتركة في تلك التشكيلات أنها لا تتبع أجساماً سياسية حزبية قائمة مع بعض الاستثناءات المحدودة جداً. ونستطيع القول إن الأجسام السياسية (الحزبية)، وهي قلة، ليس لها أذرع عسكرية، والعكس صحيح، أي أن التشكيلات المسلحة لا تمتلك أذرعاً سياسية. ذلك أعطى خصوصية للحالة الليبية. ففي الحالة اللبنانية مثلاً، عندما ذهب الفرقاء إلى «مؤتمر الطائف»، كان للمشاركين الخصوم وهم سياسيون، أذرع مسلحة، لهم القدرة والقوة على تجسيد ما اتفقوا عليه فوق الأرض، إلى جانب عامل آخر، وهو وجود القوات السورية على الأرض، في ظل تفاهم سوري سعودي آنذاك، وهو ما أطلق عليه تفاهم «س ـ س».

لقد انهارت الدولة الليبية كمبنى تداعى وانبطح على الأرض، وتدافع كل من له قدرة بشكل أو آخر للاستيلاء على ما تصل إليه يده من شظايا الحطام المتناثر على مساحة البلاد. الحطام الشظايا فيه قطع السلطة والمال والسلاح، والأيادي الممتدة إليه فيها من كهرباء العنف والجهل والتسلط والجوع ما فيها، ولا ننسى فريقاً يدفعه طفح الإصرار على الانفراد بكل القطع المتناثرة من بقايا السلطة. تلك الأيدي امتلكت ما تيسر لها من السلاح الذي مكنها من الاستيلاء على قطع الهشيم. ذلك المشهد فوق الأرض أسس لحالة كيميائية اجتماعية بل وفردية. 
تمزقت المنظومة القيمية الموروثة، صار الفساد «عقيدة»، كل فرد يركض نحو كل شيء، المال والسلطة وفرض ما في عقله بل هواه. وفي الطرف الآخر، على سفح الوجود، عامة الناس الذين لا تقدر أيديهم على أن تصل إلى قطع الركام فصاروا الضحية على السفح. «الروشتة» التي تتجاوب مع التشخيص الصحيح تبدأ من إعادة بناء عمارة الدولة على أعمدة الهندسة المدنية القائمة على جيش بالمعايير المعروفة في كل بقاع الدنيا، الجيش وقوات الأمن والإدارة الوسطى التي تمثل المحرك الذي يدفع مركبة الدولة. ومن يعرف أبجديات سطور المجتمع الليبي يدرك بقوة أن الوحدة الوطنية تمتلك قوة التماسك بحكم تكوينها وطبيعة بنيتها، وأن تجذر الدين الإسلامي في الفرد والمجتمع الليبي، وتداخل النسيج الاجتماعي يصنع صلابة خاصة قادرة على حمل الأثقال لإعادة البنيان الذي تهاوى وتشظى وامتدت إليه الأيدي. على مر السنوات السبع الماضية، امتدت سلسلة المؤتمرات الإقليمية والدولية على موائد مستطيلة ومستديرة تحت عناوين مختلفة لإيجاد حل للأزمة الليبية، المخرجات كانت واحدة، بيانات متكررة بمضمون لا يختلف عما سبقه.

نظمت فرنسا مؤتمراً شارك فيه أقطاب الأزمة الليبية بحضور إقليمي ودولي بارز، أنتج المحفل الباريسي بياناً أهم ما جاء فيه تحديد تواريخ لترتيبات دستورية تقود إلى انتخابات برلمانية ورئاسية. فرنسا منشغلة بالوضع في ليبيا بعقل يركز على الجغرافيا السياسية والعسكرية وكذلك الثقافية. دول الساحل والصحراء، وتحديداً تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، تمثل مساحات لها أهمية عسكرية، حيث لفرنسا قواعد عسكرية في هذه الدول، ولها استثمارات مختلفة وتغطي «الفرنك سيفا». اللغة الفرنسية بالنسبة لباريس قوة أكثر من ناعمة، فهي كما قال الرئيس السنغالي الراحل المفكر ليوبولد سيدار سنغور، هي الحبل السري الذي يربط أفريقيا بفرنسا. الانفلات الأمني في ليبيا يشكل أنبوب النار الذي يساهم في توسيع مساحات حريق الإرهاب الذي يزحف فوق هذه الدول. فرنسا قوة دولية أساسية، عضو دائم بمجلس الأمن، قوة نووية، لها حاملات طائرات. وتصنع أحدث الطائرات الحربية «الرافال».

السؤال، ماذا تحقق من الحروف التي كتبت في مؤتمر باريس عن ليبيا؟ لا شيء.
إيطاليا، ترى أنها الأكثر قدرة على الاقتراب من الأزمة الليبية بحكم الجغرافيا والعلاقة التاريخية من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الاستعمارية الفاشية، إضافة إلى الروابط الاقتصادية. الأنبوب الذي يمتد تحت الأرض من ليبيا إلى صقلية هو شريان حياة استراتيجي، وكذلك النفط، حيث تقوم في إيطاليا مصافٍ مصممة على نوعية النفط الليبي، وكذلك المساهمات الليبية في عدد من المصارف الإيطالية، إضافة إلى العلاقات التجارية. إيطاليا كانت لسنوات طويلة الشريك الأول لليبيا اقتصادياً. في «معاهدة الصداقة» الموقعة بين البلدين، التزمت الحكومة الإيطالية ببناء طريق سيار وفق المعايير الأوروبية يمتد من الحدود مع مصر إلى الحدود مع تونس بقيمة خمسة مليارات دولار، على أن تتولى الشركات الإيطالية تنفيذ ذلك المشروع، ولا يزال المبلغ بأرباحه مرصوداً في الميزانيات الإيطالية سنوياً. تطمح إيطاليا أن يكون لشركاتها مكان فسيح للمساهمة في إعادة بناء ليبيا. من ناحية أخرى هناك انشغالات إيطالية، وتحديداً في موضوع الإرهاب والهجرة غير القانونية وتهريب المخدرات. سياسياً إيطاليا تحاول أن يكون لها دور في المتوسط وعلى المستوى الأوروبي.

ماذا ستلد باليرمو؟ اختيار مدينة باليرمو عاصمة إقليم صقلية الجنوبية لعقد المؤتمر حول ليبيا، له مدلول خاص. هي من المدن التي كانت حلقة الرباط العربي في عهد الأغالبة، وقدمت الكثير للثقافة العربية، وبها من الشواهد الأثرية العربية الكثير. أسئلة تثار، من هم المشاركون الليبيون في هذا المحفل وكذلك الدول والمنظمات الدولية والإقليمية؟ وهل البيان الذي سيصدر في باليرمو سيجد تطبيقاً على الأرض الليبية؟ القلب ربما تلامس دقاته نبض الجغرافيا ونسمات التاريخ وطموحات الجيوب، لكن هزَّات الصراع لها قوانينها التي تصنع سدوداً تكسر كل الأمواج.

نقلا عن الشرق الاوسط

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليبيا بين العقل الفرنسي والقلب الإيطالي ليبيا بين العقل الفرنسي والقلب الإيطالي



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon