للنيران أبوابها التي تمتد إليها أيادٍ متعددة، تفتحها بسرعات متدحرجة. الحروب ترافق الحياة في كل العصور، ولكن الأسلحة تختلف بقدر اختلاف العقول التي تبدع أدوات السلاح. الحسم يولد من العقول التي تصنع القرارات التي تحرك البشر نحو الصدام. الحالة الإيرانية الأميركية تُعدُّ من الإضافات إلى السجل المتراكم عبر التاريخ في مواجهات الأمم. العداء بين إيران وأميركا له جذور في التاريخ الحديث، منذ تدخل الولايات المتحدة لإحباط ثورة مصدق الإيرانية. بعد ثورة الخميني اندلعت حرب العداء بين البلدين، باقتحام السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها لمدة ليست بالقصيرة. نار العداء بين الطرفين لم تخبُ وإن تبدلت درجات حرارتها من وقت لآخر.
الإدارات الأميركية المختلفة من الجمهوريين إلى الديمقراطيين، لم تغب إيران عن ملفاتها الساخنة؛ بل الملتهبة، في كثير من الأوقات. الحالة الفارقة كانت من منتجات إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، الذي حقق اختراقاً كبيراً عندما أنجز مع دول خمس اتفاقاً بشأن الملف النووي الإيراني سنة 2015، وتم رفع العقوبات الأميركية عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي عاشت تحتها سنوات من المعاناة المالية الثقيلة؛ لكن بقايا جمر العداء بقيت في قاع الرؤوس والنفوس.
لم يحتج الرئيس الأميركي الجديد ترمب إلى حطب جديد لإعادة إشعال نار المواجهة مع دولة الملالي؛ حيث أعلن في حملته الانتخابية الشعبوية رفضه القاطع والحاد للاتفاق النووي مع إيران، واستمر يزجي الحطب للنار بعد دخوله إلى المكتب البيضاوي.
فوق تلك الحلبة التي يصارع فيها ترمب زعامات إيران، كان هناك أكثر من لاعب بلا قفازات، وهم الأطراف الدولية الكبيرة التي شاركت في تسوية الملف النووي الإيراني، وتحديداً بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الدول الأوروبية الفاعلة، ومعهم الصين وروسيا.
الاتفاق بين هذه الأطراف حمل عنوان برنامج العمل الذي تمت تزكيته من مجلس الأمن الدولي، ولم تكن معاهدة حملت مصادقة الأجسام التشريعية في تلك الدول، بما فيها الولايات المتحدة، وذلك جعل قرار الانسحاب منها بالنسبة للرئيس الأميركي إجراء رئاسياً سهلاً.
التراجع الأميركي عن برنامج العمل المتفق عليه بين الأطراف السبعة حول الملف الإيراني، كان مجرد الباب الذي دخل منه الرئيس ترمب إلى حلبة الصدام مرة أخرى مع النظام الإيراني. هو يرى أن رفع العقوبات عن إيران أعاد تأهيلها مادياً للاستمرار في سياستها المعادية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
الرئيس ترمب يخوض في ذلك معركة على أكثر من جبهة، معركة مع حلفائه الأوروبيين الذين تدافعوا إلى واشنطن من أجل ثنيه عن قرار بالانسحاب من التسوية مع إيران. الأهداف مختلفة، القوة السياسية الأوروبية المتمثلة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا تعتقد أن الاتفاق مع إيران يفتح الباب لاحتوائها وكبح اندفاعها لتعقيد الأوضاع في الشرق الأوسط، ومن خلال تطوير العلاقات التجارية والاستثمارية معها يمكن جعلها تجنح إلى التسويات والحلول الوسط.
الرئيس الأميركي لا يرى ذلك، ويؤمن بأن الضغط السياسي والعسكري والمالي على إيران هو القادر على كسر قدرتها الشاملة، وإبطال مفعولها على الأرض.
بعد إعلان الرئيس الأميركي عن انسحابه من الاتفاق، بادرت جميع الأطراف المشاركة إلى تأكيد استمراره والتمسك بتفعيله. السؤال هو: هل تنجح الدول الأوروبية ومعها روسيا والصين في إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران بعد مغادرة الولايات المتحدة؟ ستعيد أميركا العقوبات القديمة على طهران وتوسعها بقوة، وذلك سيطال الشركات الأوروبية التي شرعت منذ سنوات ثلاث في توسيع التعامل مع إيران، خاصة في مجال الطيران؛ حيث وقعت «إيرباص» و«بوينغ» عقوداً بعشرات المليارات، وكذلك في مجال النفط وصناعة السيارات. العقوبات الأميركية ستلاحق هذه الشركات وغيرها، مما يجعل الاتحاد الأوروبي في حلقة العقوبات، والسؤال الأكبر والأخطر: هل ستتراجع إيران عن تفعيل الاتفاق وتمضي في تطوير برنامجها النووي، وتوقف تعاملها مع وكالة الطاقة الذرية؟
الرئيس ترمب رفع سقف التهديد وعصا الوعيد. لم يقف عند ملف النووي؛ بل طالب إيران بتنفيذ قائمة طويلة من الإكراهات، أبرزها وقف كامل لبرامج صواريخها الباليستية، وإنهاء نشاطها التخريبي في سوريا ولبنان واليمن والعراق. وذهب إلى داخل البيت الإيراني؛ حيث أضاف ضرورة أن تلتزم إيران بحقوق الإنسان في التعامل مع شعبها. تلك طلبات لا شك في أنها تعني الاستسلام بالنسبة لإيران، فقد استثمرت الأموال والتعبئة في الداخل والخارج في سبيل ذلك.
إيران تعاني من أزمة اقتصادية خانقة منذ سنوات، ومع العقوبات الأميركية القادمة ستجد نفسها عاجزة على الاستمرار في تمويل مشروعاتها العسكرية، والدفع لأتباعها في الشرق الأوسط، ومعالجة الضائقة المالية التي تعانيها في داخل البلاد.
الشعب الإيراني يعيش في ضائقة اقتصادية خانقة، وهو يرى مقدرات وطنه تنفق في مغامرات عبثية، وكذلك دماء أبنائه، وصوته الخافت يردد قول الشاعر:
كالعيس في البيداءِ يقتلها الظما
والماءُ فوق ظهورها محمولُ
الاتحاد الأوروبي في موقف صعب. الولايات المتحدة حليف أساسي وشريك رئيسي، فهل يضحي الاتحاد بذلك من أجل إيران؟
ستعمل الدول الأوروبية الثلاث من أجل إعادة تشخيص الأزمة، واجتراح البدائل التي تقنع إيران بتنازلات ترضي الرئيس الأميركي، بإضافة موضوع الصواريخ الإيرانية، وكذلك التدخلات الإيرانية في المنطقة، والمطالب الأميركية بالنسبة لأوضاع حقوق الإنسان في الداخل الإيراني. كيف؟ يستطيع الرئيس الفرنسي ومعه بريطانيا وألمانيا اقتراح عناوين مرنة لجهد سياسي لتطوير الاتفاق، بتشكيل لجان تضم الأطراف تحت عناوين مراوغة، مثل: التشاور لوضع رؤية لبرنامج الصواريخ، وكذلك فريق عمل مشترك من الأطراف المعنية لمناقشة خريطة طريق للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.
الرئيس الأميركي شرع في حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي والصين، وتحديداً في مادتي الحديد والصلب، والألومنيوم، وتحدث مراراً عن رفع المساهمة الأوروبية في موازنة حلف الناتو، وكل ذلك خلق فجوات غير مسبوقة في العلاقات الأوروبية الأميركية.
الأوروبيون يعلمون جيداً أن ترمب لن يتراجع عن قراره بخصوص الاتفاق النووي مع إيران، وفي الوقت ذاته يدركون الموقف الصعب الذي هوت فيه إيران، وعليه يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يدفع بقواعد مبتكرة للعبة الصدام بين أميركا وإيران التي ستعاني من العقوبات الأميركية المؤلمة.
فتح جبهة المواجهة الإيرانية الإسرائيلية عبر سوريا، جرح جديد يُضاف إلى الجسد الإيراني المنهك عسكرياً ومالياً. أميركا بعقوباتها الجديدة الشديدة تخنق إيران وإسرائيل، بفتح جبهة الصدام معها تستنزفها عسكرياً. والدور الروسي المرن مع إسرائيل يجعل الوجود الإيراني في سوريا ثقلاً مضافاً لموسكو، مما يجعل إيران تبحث كرهاً عن مخرج قد تهديها إليه الدول الأوروبية المعنية، وبدفع موازٍ من موسكو.
إيران تدرك أن المعركة مع أميركا ستكون طويلة وثقيلة، وستقبل لتخفيف معاناتها أن تنتهي المواجهة بالنقاط، قبل أن تأتي عليها الضربة القاضية.
نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع