توقيت القاهرة المحلي 19:48:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

غبار الآيديولوجيا

  مصر اليوم -

غبار الآيديولوجيا

بقلم : عبد الرحمن شلقم

القرن العشرون الراحل، كان أباً لزمن غيّر كل شيء على وجه الأرض. البشر والطبيعة. فيه قفز العقل البشري إلى رحاب واسعة غير مسبوقة في عقل الإنسان. اكتشافات واختراعات علمية، وتفعيل ما راكمه الفلاسفة والمفكرون عبر قرون طويلة. لكن الدم والضحايا والدمار كانت المنتج الرهيب الذي قضى على عشرات الملايين من البشر. الحربان العالميتان الأولى والثانية كانتا المذبحة الرهيبة. في النصف الأول من القرن الماضي ولدت عاصفة نارية ودموية شكلت زلزالاً مرعباً، وهي الآيديولوجية. تلك الظاهرة الفكرية المميتة التي تنبت في رأس فرد، يحولها إلى بذور يزرعها في حقول مجموعة تحوم حوله، لتنبت سنابلَ من العنف الجنوني في رؤوس مريدين يندفعون بها لتحقيق أوهام لا تقبل النقاش وتحرم التفكير. أفكار مسبوكة في أغلفة سحرية تحول البشر إلى كائنات تحمل فوق أكتافها رؤوساً بها صناديق مقفلة منزوعة القوة، تمضي طائعة بعيون مغمضة وراء فرد يشعل بحطب صوته الطموح الخيالي الرافض لكل من حوله، وما حوله.

هزَّات ثلاث حولت الدنيا إلى مقبرة مرعبة، كان حفَّارها اسمه الآيديولوجيا. مثلث امتد من روسيا إلى إيطاليا وألمانيا. الشيوعية التي أنتجتها الثورة الروسية على النظام القيصري، وقتلت جميع أفراد الأسرة الحاكمة، وأعملت القتل في كل من عارضها. حرب أهلية شاملة بين طبقة العمال التي وصفتها الآيديولوجيا الشيوعية بالطبقة المظلومة المسحوقة، التي يمتص الرأسماليون والبرجوازيون عرقها. لينين المفكر الشيوعي الذي أمضى سنوات عمره دارساً لما كتبه المفكر الألماني كارل ماركس، وحولها إلى آيديولوجيا عبأت مريديه وحولتهم إلى متفجرات لا تترد في تصفية كل من يقف في طريقها. تمكن لينين من السيطرة على مقاليد السلطة في روسيا بعد طوفان من الدم عمَّ كل أنحاء روسيا. بعد رحيله شهدت الدولة الشيوعية الأولى في العالم معركة دموية بين قيادة الحزب الشيوعي، وكان المنتصر ستالين. شرع مبكراً في تصفية رفاقه الذين اشتم فيهم رائحة المنافس. وكان كرسيه في الكرملين هو أنفه الذي يشم عبره رائحة المؤامرة. قتل كل من قرأ فيه ملامح الزعامة والقيادة. تروتسكي الشخصية القيادية الأبرز في الفكر والحركة في الحزب، كان الطريدة الأكبر لستالين. هرب الثائر الذي آمن بالثورة المستمرة المتحركة، لكن ستالين لاحقه في منفاه بالمكسيك وتمكن من تصفيته. صار القتل هواية ستالين الآيديولوجية، حتى زوجته لم تنجُ من حبه للتصفية. كل يوم تقدم له قائمة أسماء بها آلاف من الحزبيين والعسكريين والمزارعين، ليوقع على قتلهم. يشطب بعض الأسماء التي ليس أمامها أي تهمة، ويأمر بقتل من لم يحالفه الحظ المزاجي للزعيم الأعظم والأوحد. كل إنسان في الاتحاد السوفييتي في نظر ستالين خائن ويستحق القتل. الشيوعية آيديولوجيا أممية، هدفت إلى سيطرة الطبقة العاملة على كل العالم، ونهاية كل الأنظمة الرأسمالية. ستالين كانت السلطة همه الأوحد والأكبر، والآيدولوجيا الشيوعية التي التحف بها لم تكن بالنسبة إليه سوى سلم ارتقاه ليكون الحاكم المطلق في الكيان الجديد الكبير، الاتحاد السوفياتي.

المضلع الثاني في مثلث الآيديولوجيا القاتلة، كانت الفاشية الإيطالية بقيادة بينيتو موسوليني، الذي نجح في تأسيس نظام ديكتاتوري حكم إيطاليا عقدين من الزمن، وأدخل بلاده في مغامرات عسكرية كلفتها مئات الآلاف من القتلى في حربه على ألبانيا وإثيوبيا واليونان، وقبلها في ليبيا.

قام موسوليني بتصفية كل من عارضه، وأطلق العنان لأنصاره من أصحاب «القمصان السود»، للهجوم على كل من خالفه من السياسيين والمفكرين ورجال الأعمال. لم يتردد في قتل صهره جلاسو تشيانو زوج ابنته الذي كان وزيراً للخارجية بسبب اعتراضه على تحالف موسوليني مع هتلر. استدعى موسوليني التاريخ الروماني الغابر، وصرخ في خطاباته التي كان يلقيها بميدان فينيسيا بروما أمام مئات الآلاف من المهللين والمصفقين. صرخ يعِدهم باستعادة الإمبراطورية الرومانية. الآيديولوجيا تحقن رؤوس العوام بسائل الوهم السحري، فيندفعون بعيون مغمضة، وأصوات تصرخ وأيدٍ تصفق للزعيم القادر على إعادة إنتاج المكان وإعادة روح التاريخ الغابر، ولا يغيب الصراخ بكلمة «المجد»، وهي الكلمة السحرية التي لا تفارق صوت الزعماء المسلحين بعنف الآيديولوجيا الدموي. ثالثة الأثافي المرعبة كانت النازية التي دفعت العالم إلى هاوية الدم، ليسقط فيها عشرات الملايين من الضحايا. استطاع أدولف هتلر الشاويش في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى، أن يسطو على عقل الشريحة الأكبر من الشعب الألماني، الشعب الذي قدم للدنيا العظماء في العلم والفلسفة والموسيقى والأدب. الحالة الألمانية، كانت الشهادة الفريدة على قوة الآيديولوجيا الرهيبة. شاويش مجهول كان يتسول في شوارع فيينا يهش على شعب يضم الملايين من المتعلمين والمبدعين، ويدفعهم طائعين إلى محرقتين. الأولى حرق ملايين اليهود العزل، ومعهم المعوّقين والغجر والشواذ، والمحرقة الثانية كانت الحروب التي شنها الشاويش غرباً وشرقاً، وكانت المحصلة، مقتل الملايين من الألمان والأوروبيين والروس وغيرهم في أفريقيا وآسيا. انتهى الزعيم الفوهرر الذي أقنع الشعب الألماني بأنهم الجنس الآري المتفوق على غيره من كل الأجناس البشرية. كانت نهايته مثل نهاية صنوه الآيديولوجي موسوليني الذي علقه الإيطاليون مع عشيقته كلارا بيتاشي، من أقدامهما بوسط مدينة ميلانو، أما هتلر فقد انتحر في حفرته ببرلين مع عشيقته إيفا براون.

بدايات الآيديولوجيا قدحة في رأس حالم متعصب، يؤمن بأنه يحمل رسالة خلاص من وضع قائم يرفضه، وتقديم وصفة مستقبل رائع مجيد متخيل يحلم به. الوصول إلى هام السلطة، هو المحرك الذي لا يغيب عن كل الشحنات الآيديولوجية. لكن الصراع بين المؤمنين بآيديولوجيا واحدة، لا يلبث أن ينفجر عند الوصول إلى السلطة. هذا ما حدث في جميع الحالات تقريباً. في التجارب العربية، تقدم الحالتان البعثية في العراق وسوريا، وفي اليمن الجنوبي الذي تبنى الآيديولوجيا الشيوعية، معطية ملموسة لمركب الآيديولوجيا القاتلة. في العراق رفع حزب البعث العربي الاشتراكي شعار الوحدة والحرية والاشتراكية، لكنه قام بكل شيء سوى ما رفعه من الكلمات الثلاث. قتل صدام حسين في قاعة الخلد قادة الحزب، أعضاء القيادة القومية والقطرية، وأعدم آلاف الضباط من الجيش العراقي، ودخل في عداوة طويلة مع توأمه الآيديولوجي البعثي السوري، وقبل ذلك تآمر على الوحدة السورية - المصرية.

غبار الآيديولوجيا لا يزال يتطاير في العالم، ويشعل الحروب. هل هي ضربات صراع الحضارات كما تنبأ به صامويل هنتنغتون، أم صدام المصالح وطموحات السلطة؟

الآيديولوجيا فيروس لا يطيل النوم. له رواسب في قاع اللاشعور. له ألسنة بركانية دموية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غبار الآيديولوجيا غبار الآيديولوجيا



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon