توقيت القاهرة المحلي 20:12:13 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زلزال في حواس الحروف

  مصر اليوم -

زلزال في حواس الحروف

بقلم : عبد الرحمن شلقم

كل ما على الأرض يهتز دون توقف، في الأجساد والأرواح وكذلك في الأشياء. لكن عندما تهتز الأرض، وتضرب حشرجتها ما فوقها، وتتهاوى السقوف التي تعتلي البنيان الحامية للبشر كباراً وصغاراً، تحل طامة الموت والدمار والرعب. الزلازل من ضربات الطبيعة التي لا يمكن رصدها وقياس درجاتها إلا بعد أن تضرب ضربتها وتكسر الحجر وتقتل وتجرح البشر. كل زلزال أينما حدث، تمتد ارتداداته إلى البشر أجمعين، القريب منهم والبعيد عن مكان الكارثة. الأرض هي بيت العائلة البشرية، بعيداً عن الأعراق واللغات والصراعات. في كوارث الحروب يختلف الناس، فلكل اصطفافه. وينقسم الناس فيها بين مادح وقادح، مؤيد ومعارض، لكن عندما تغضب الأرض وتضرب مَن يعيش فوقها، تتعانق المشاعر، ويتوحد الألم والحزن والتعاطف في النفوس القريبة والبعيدة عن مكان الهزة الأرضية. الأماكن لها أجساد وقلوب وحواس. بعضها كائن حي تراه وتشعر بأنه يراك، ويبدع لغة خاصة لكل مَن يعيش فيه أو يقترب منه. مراكش المدينة التي كانت، لقرون طويلة، هي الاسم للبلاد التي تحمل اليوم رسمياً اسم المغرب. في اللغات اللاتينية ما زال الاسم هو الاسم (MORROCO). ضرب وسطها وبلدات حولها، مساء يوم الجمعة 8 سبتمبر (أيلول)، زلزال راح ضحيته المئات من النساء والرجال الكبار والصغار، وتهاوت مبانٍ بناها البشر ولوَّنها الزمان، وسكب فيها التاريخ عظمة مَن عاش فيها. مراكش التي كل ما فيها ومَن فيها لديه ما يقول. ساحة جامع الفنا التي تتوسط المدينة هي إبداع إنساني يحمل لغة تتحرك على صفحة الوجود الصغير الموصوف. كبار وصغار بسطاء، منهم مَن يداعب حيوانه برقة صديق؛ القرود والأفاعي وغيرها من الكائنات. نظرات مروّضها وبسماته تهب الزائرين موجات من الفرح، وتزجي البسمات. عازفو الموسيقى، كل ما فيهم يشكل فرقة طرب تأسر الواقفين والعابرين. هؤلاء الطيبون البسطاء لا يبيعون لك شيئاً بمقابل مالي، بل هم مَن يتصدق عليك بما تقدمه لهم من دراهم معدودة. التجار وأصحاب المطاعم الصغيرة، والرجل المبتسم الذي يعتلي حنطوره، والسادة والسيدات التي تعج بهم المدينة، كل واحد منهم كتاب يتحرك ويبتسم، ويمد لك حبل إخوة ومودة وتسامح. مدينة مراكش التي هي التعبير المكثف عن كل ما في المغرب ومَن فيه من عرب وأمازيغ وجود قديم لا يطاله صداء العاديات من السنين. العلم والفلسفة والإبداع والفتوحات والجهاد والأدب والفن وروعة التعايش والتسامح. عندما تهتز أرضها، تهتز قلوب الملايين، ليس من أشقائهم غرباً وشرقاً فقط، بل كل مَن يقابلهم على الضفة الأخرى القريبة والبعيدة من البحر الأبيض المتوسط. هل كانت تقوم حضارة الأندلس الإنسانية التي أبدعها المسلمون واليهود والمسيحيون دون مراكش، حيث كان ابن رشد وابن حزم وموسى بن ميمون وابن عربي وزرياب وابن زيدون وولّادة، وعشرات بل مئات غيرهم؟

الامتداد الإسلامي في غرب قارة أفريقيا بمذهبه المالكي، وانتشار الطرق الصوفية فيها واللغة العربية، كل ذلك كان سيلاً من نبع مراكش الفريد. هذا النبع لا ينضب أبداً. الفلاسفة والمفكرون والأدباء والكتاب والفنانون، يعبر عطاؤهم كل الحدود باللغة العربية والفرنسية والإسبانية.

عندما تهتز أرض مراكش وما حولها، تهتز معها مشاعر في المشرق والمغرب؛ فلها في القلوب منازل. الزلازل تسقط المباني ويموت تحت الركام البشر، ويسود الحزن، ويهبّ القريب والبعيد لإنقاذ المصابين، لكن زلزالاً عنيفاً يهز الاسم أيضاً، لا البنيان فحسب. المدن لها بنيان رفعته حجارة التاريخ وطين الإبداع وماء الفكر وجهد العقل عبر سنين طويلة. عندما تهتز مراكش وتتهاوى مبانيها، تميل حواس بغداد وتونس والجزائر والقاهرة والرياض والطرابلسيان في الشرق والغرب والخرطوم وغيرها. في كل هذه البقاع هناك كثير مِن حروف مراكش ومِن عطرها وأنغامها وأصوات عقلها. الزلازل تقاس بما يسمى بمقياس «ريختر»، لكن هناك ترمومتر إنساني له درجات لا يقرأها علماء الجيولوجيا، بل يتحسسها ويقرأ عداد درجاتها مَن يجوب رحاب زمن المكان المهتز، ويعبر إلى ضفاف وجبال سهول وأعماق، الكائن المكان...

قد يهون العمر إلا ساعةً...

وتهون الأرض إلا موضعا

هكذا تحدَّث أمير الشعراء أحمد شوقي.

المصاب جلل؛ فالضحايا إخوة، والبلاد غالية، والاسم له جذور وفروع هي مبانٍ لا يطالها اهتزاز، لكن القلم الذي يقترب من النازلة محاولاً أن يكتب عما أصاب مراكش وأهلها، تضربه هزة بمقياس أقسى وأشد مما يكتبه مقياس «ريختر».

زرتُ مراكش مرات ومرات، لكن في مناسبة لا يمكن أن تغادر الذاكرة. أُقيمت في جامعة القاضي عياض بمدينة مراكش سنة 1983 ندوة شارك فيها مفكرون وساسة ومثقفون عرب، وكان من بينهم المفكر الدكتور محمد عابد الجابري. كان موضوع الندوة سياسياً وفكرياً يناقش ما يشهده العالم العربي من أزمات، وهل لمخرج من سبيل. كان للمكان حضور طاغٍ. تحدث بعض الإخوة المغاربة عن شخصية مراكش التي صنعها التاريخ وصنعته. أقول إن ما استفدت منه في تلك المناسبة من معلومات تاريخية وثقافية وسياسية عن مدينة مراكش أهم بكثير مما استفدت من الأحاديث والنقاش في الجلسات الرسمية لتلك الندوة التي أعادت ما يقال في كل الفعاليات التنظيرية التي تناقش ما تشهده منطقتنا من أزمات لا ترحل.

اليوم، كل العواطف والمشاعر والأقلام هي بوصلة تتجه نحو مراكش وأهلها تشاركهم ما حل بهم من مصاب جلل، ويهتز الوجدان الذي طاله الزلزال الذي ضرب مراكش... البشر والمباني والمعاني.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زلزال في حواس الحروف زلزال في حواس الحروف



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon