توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

جبال التاريخ المثقوبة

  مصر اليوم -

جبال التاريخ المثقوبة

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

«التاريخ، بكل بساطة، هو قطع أوراق مغطاة بالحبر، القائد هو الذي يصنع التاريخ، وليس الذي يكتب عنه التاريخ، لأن التاريخ يكتب كل شيء» (أوتو فون بسمارك، رجل الدولة البروسي).
العصر الذي نعيش فيه اليوم، وُلد من رحم عصور عاشت ولكنها مضت في رحاب الزمن وبقيت آثارها تفعل في صمت يتضاءل مع ولادة أفكار وثقافة واختراعات جديدة متدفقة. كل أمة لها تاريخها القديم المتحرك مع إيقاع الحياة، لكن هناك محطات حيوية قريبة لها إيقاعها الحاضر والفاعل في العقول والأرض.
التاريخ كيس جبل ضخم من الأحداث المكتوبة والمرويّة، ولكل تكوين بشري مهما صغُر تاريخه الذاتي البعيد والقريب، والشعوب والأمم هي كذلك كبيرها وصغيرها. الشعوب الحية لا تتوقف عن قراءة تاريخها ولها معامل علمية لتشريح التاريخ يعيش فيها الباحثون ليستلّوا الهنّات التي أثّرت في مسار حياة شعوبهم، وكذلك مهامز القوة الفكرية والعلمية والإدارية بجوانبها السلمية والحربية. هكذا يكون التاريخ كائناً حياً حاضراً وله فعله التأسيسي والتطويري. هناك أكوام ضخمة في كيس التاريخ الماضي الذي مات ورقد في قبر النهاية، قد يصلح ليكون من النوادر المسلّية، لكنه لا يضيف شيئاً لسماد تربة الحاضر في الحياة والعقل. غاص الكثير من الفلاسفة في أعماق الماضي، وفككوا أفكار من سبقهم ليبنوا بحجارتها قلاعاً شاهقة يرفعون فوقها منارات للمستقبل، ويخطوّن بحبرها صفحات النور لشعوبهم وللإنسانية كلها.
في الصين واليابان ودول أوروبا وأميركا، تتسابق أطياف الأجيال على دراسة التاريخ وبخاصة الحديث منه الذي يمكننا أن نطلق عليه التاريخ الحي، ويلتحق الكثيرون منهم بمعاهد البحوث السياسية والاجتماعية وبعضهم يتوجه إلى التدريس بالجامعات. التاريخ السحيق الإغريقي والمصري والروماني مثلاً، له دارسوه لكنهم قلة يلامسون من خلاله الفلسفة وكذلك الأديان. في البلاد العربية، تميل الغالبية إلى الحفر في الجبال القديمة، ويتسابقون، وكلٌّ بإزميله، لتفكيك حجارة الماضي السحيق، ولا يغيب العراك بسلاح التبجيل والتبرير ولا يغيب إصدار الأحكام المرسلة على هذا الطرف أو ذاك، وتتحول البحوث التاريخية إلى قاعات محاكم تبرّئ أو تُدين.
شهدت البلاد العربية في القرنين الأخيرين، أحداثاً كبيرة شكّلت سلاسل من الانكسارات بل الكوارث؛ من الاستعمار إلى احتلال فلسطين وتشظي البلدان والانقسامات وتفشي الآيديولوجيات الدموية التي جعلت من التكفير سيوفاً للقتل، والتسلط الديكتاتوري وتكريس التخلف. لكن كل ذلك لم يلد محركاً يدفع الدارسين والمؤرخين إلى الغوص فيما حدث والحفر في طبقات الزمن الماضي لاكتشاف مكامن الوهن، وبناء منصات إطلاق العقل من صخور جبال التفكير والتنوير والعلم.
الفريق سعد الدين الشاذلي القائد العسكري الاستراتيجي المصري، خاض أربع حروب ضد إسرائيل من حرب 1948 إلى حرب 1973. في مذكراته روى تفاصيل ما عاشه. في الحرب الأولى تحدث عن قلة عدد الجيوش العربية، وضعف خبرتها. وقال إنه لم يمسك قنبلة يدوية في يده خلال حياته العسكرية قبل الذهاب إلى حرب فلسطين، وامتلاك اليهود للطيران كان مفاجأة للقوات العربية. وتحدث عن حرب يونيو (حزيران) وغياب الإعداد العسكري الحقيقي، وأورد الفريق الشاذلي مفارقة عسكرية غريبة وهي أن المشير عبد الحكيم عامر قائد القوات المصرية المسلحة، زار الكلية الحربية وكان الدرس عن تكتيك الانسحاب، فأمر بإلغاء المادة، وقال: إن الجيش المصري لا ينسحب، مع أن مادة تكتيك الانسحاب أساسية في العلم العسكري، وقد كانت عبقرية الماريشال رومل في الانسحاب بعد هزيمته في العلمين، لا تقل عن عبقريته في الهجوم الخاطف وابتكار الخطط الميدانية الجريئة.
لقد وظّف الفريق الشاذلي خبراته القتالية التي عاشها في الحروب السابقة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) التي انتصر فيها الجيش المصري. ذلك هو التوظيف الحي للتاريخ والتجارب. الجنرال الإسرائيلي موشي ديان، زار فيتنام في أثناء الحملة الأميركية عليها ودرس تفاصيل المعارك. والجنرال جياب، قائد القوات الفيتنامية الشمالية، كان مفتوناً بتفاصيل حروب نابليون بونابرت وغاص في تاريخها. بالنسبة إلى اليهود، كان التاريخ القديم والحديث وقود الشحن لتحقيق طموحهم في إقامة دولتهم بفلسطين، لكنهم لم يغرقوا في بحر الماضي السحيق وأساطيره إلا في حدود، بل ركزوا على معاناتهم في المحارق النازية لتكون الرابط الذي يجمعهم من الشتات، ويجعلهم يستميتون في القتال ضد العرب، ويؤسسون دولتهم على العلم والقوة العسكرية والصناعية، لأنها الدرع التي تحصّنهم ضد الضعف والشتات والعودة إلى ما عانوه في الماضي. لقد رفع مناحم بيغن، السياسي الصهيوني المتشدد، شعار «لن يعود ما كان، never again».
الحروب العربية الأربع ضد إسرائيل في القرن الماضي، لم تنل من الدراسة والتحليل والتأليف ما نالته حروب العرب الأهلية فيما بينهم من الفتنة الكبرى والحروب بين الأمويين والعباسيين والعلويين، وبين الأبناء والآباء والإخوة على إمارة المؤمنين وكراسي السلطنة في الحقب السحيقة. المعارك بين السنة والشيعة، في الكتب والأفواه ووسائل الإعلام، والخصام حول المهدي المنتظر، هل كان أم لم يكن، والزيدية والجارودية والخوارج والمعتزلة والأشعرية، إلخ. المؤرخون والمفكرون الأوروبيون سارعوا إلى تفكيك ما سمّوها الحداثة التي عاشتها أوروبا بعد الانتقال إلى المرحلة الحضارية التي أنتجتها فلسفة التنوير ومنها إلى حلقة الصناعة، لكنهم هبَّوا إلى نقدها بعد الحربين العالميتين تحت عنوان «ما بعد الحداثة». هناك من بقايا التاريخ ما يوضع في المتاحف، ومنها ما يُصب في مختبرات العقول ليكون وقوداً فكرياً يدفع محركات التقدم. سنة 1968 شهدت أوروبا ربيعاً شبابياً، انطلق من فرنسا وساح في غرب أوروبا تعبيراً عن رفض الشباب الحياة في متحف الفكر الموروث، سارع علماء الاجتماع والسياسيون والمفكرون إلى دراسة ما حدث، وأُقيمت حلقات نقاش علمية موضوعية، ووُضعت البرامج العاملة لمعالجة دوافع تلك الحركة وتم تجاوزها. ظهرت بعد ذلك حركات دموية متطرفة يسارية وهي: «بادر ماينهوف» في ألمانيا، و«العمل المباشر» في فرنسا، و«الألوية الحمراء» في إيطاليا، وأُخضعت كلها للدراسة العلمية، وتم تشخيص دوافعها من كل جوانبها، ووُضعت برامج تعلمية ونشاطات شبابية ثقافية ورياضية لمواجهة تيارات العنف.
التاريخ يشيخ بعضه وآخر يموت، أما ما ينفع الناس منه، فذلك الكم الحي الذي يعيش معنا فوق الأرض وفي الرؤوس.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جبال التاريخ المثقوبة جبال التاريخ المثقوبة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon