بقلم - محمد الرميحى
يبدو من الأخبار المتعاقبة أن اتفاقاً إسرائيلياً حماسياً يلوح في الأفق بعد زمن قصير، من أجل ما عرف بالتهدئة والتهدئة المقابلة. والاتفاق المرتقب يأتي بوساطة مصرية ودولية، مع شيء من التنازلات التي سُميت إنسانية.
شخصياً لا أتحمس لنقد ما يجري حول القضية، ليس لأني غير مهتم كما غيري من العرب الكاثرة، ولكن لأني أعلم أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني قد فاق معظم معاناة الشعوب على هذه الأرض وفي التاريخ المعاصر، وعندما أقول الشعب الفلسطيني فإني أفرق بينه وبين القيادة، فلم تتهيأ خبرة أكثر تنوعاً وعمقاً لدى نخب عربية في عصرنا، كما تهيأت للنخب الفلسطينية، لكن تلك النخب العلمية يندر أن تطفو على السطح السياسي، فمنذ أن نشأت القضية قبل مائة عام إلى يومنا هذا، استطاعت قلة من تلك النخب الفلسطينية أن تؤثر في القرار أو تتخذه. فأهل «الشعبوية» هم من يطفون معظم الوقت على السطح السياسي، وما زالت القضية تراوح مكانها بسببهم جزئياً.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن والمنطق... إن كانت «حماس» وحلفاؤها في غزة أو في أي مكان آخر من الأرض الفلسطينية، قادرين وقابلين للتهدئة مع إسرائيل، بصرف النظر عن تصنيف تلك التهدئة، أليس من الأولى أن تقوم هي وأيضا «فتح» في الضفة، بالوصول إلى تهدئة مستحقة للجمهور الفلسطيني العريض، والاتفاق على حد أدنى من الخيارات الوطنية؟!
لدى قناعة أنه لو تم ذلك (أي الوفاق) لأصبحت قدرة الفلسطيني على الصبر والتحدي أكثر منها اليوم، ولأصبح الحل المعقول لهذه القضية أقرب من وضع الفرقة القاتلة التي تبعده عن الحل. لا أبرئ أحداً من أسباب هذه الفرقة غير المبررة عقلاً، فهناك تصور قريب من الجزم، لدى دارسي السياسة في الشرق الأوسط بأن معظم الشرور التي تواجه الأمة وواجهتها في السابق وسوف تواجهها في المستقبل نابعة إلى حد كبير من تداعيات القضية، التي سممت تفاعلاتها السلبية حتى الآن الفضاء العربي بالانقلابات من جهة وتحالفات عمياء من جهة أخرى، وفوتت على معظم العرب التقدم الذي يستحقونه في هذا العصر، قلت معظم ولم أقل «كل» حتى لا يفهم أحد غير ما أقصد.
المثال الذي سوف أتحدث عنه والمختار لعنوان هذا المقال هو «سر الغرفة 230»، وهي للمتعجل من القراء الغرفة التي قُتل فيها قيادي «حماس» محمد المذبوح في دبي بداية عام 2010، وقد تم نشر تفاصيل القصة كاملة في مجلة «نيو ستيتسمان» البريطانية في عددها الصادر في الأسبوع الثالث من أغسطس (آب) 2018. والموضوع منقول من كتاب صدر مؤخراً بعنوان «انهض واقتل أولاً» للكاتب جون ميوري. تفاصيل القصة مخيفة، وهي الفرق بين اتخاذ القرار «العلمي المنظم» ولا أقول الصائب، وبين ترك الأمر للصدف والقدر، وخلط النصيب بالمصير. قلت التفاصيل مخيفة، ليس فقط بسبب قتل المذبوح بطريقة بشعة، ولكن أيضاً للتفاصيل الصغيرة التي يبدو أنها لم توضع للدراسة في خضم الصراع الشهواني على السلطة، على حساب البشر الفلسطيني الذي تحمّل وما زال يتحمل مرارة العيش تحت أو جنب الاحتلال.
تقول القصة إن المرحوم المذبوح قد زار دبي خلال سنة واحدة 5 مرات، وتنقل عنه تصريحاً على «إحدى القنوات» قبل أشهر من اغتياله يقول فيه «على رؤوس الأشهاد» إنه يُلقب بالثعلب، لأنه يتخذ احتياطات كثيرة لحماية «عمله»! ظهور شخص مكلف عملاً استخباراتياً كبيراً لشعب مضطهد ومطارد، على شاشة التلفزيون، أول الأسئلة الصعبة التي تتبادر إلى الذهن وتثير العجب! وكما يقول تقرير المجلة، فإن محاولة قتل «المذبوح» تمت قبل أشهر، وقد أغمي عليه وقتها نتيجة دس السم له، ولكنه نجا من الإغماء، وبرر له طبيبه الإغماء أنه نتيجة نقص في الكريات البيضاء في الدم! ومع ذلك يذهب للتفاوض دون أي مجموعة حماية، فتفاصيل ملاحقته تُظهر أن الرجل كان يعمل وحده، معتمداً على اسم مزور في الجواز الذي يحمله. وما يلفت وربما يغيض أكثر أن المجموعة المكلفة الاغتيال كانت تعرف على وجه اليقين متى وفي أي ساعة سوف تصل الضحية!
المقال (الدراسة) ينعطف على تاريخ خلق الأجهزة المخابراتية في إسرائيل، والتي أُنشئت بعد قليل من قيام الدولة تحت قناعة بأن من يحمي إسرائيل هي قوات مسلحة قوية وجهاز مخابرات قوي! لذلك فإن الأجهزة الثلاثة (وهي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «آمان»، وجهاز الأمن الداخلي «شن بيت» المضاد للجاسوسية، و«الموساد» المكلف الاغتيالات الخارجية) كلها خارجة عن الدولة بمؤسساتها المعروفة، وتمويلها غير معلن أو معروف، وقد حُرم الحديث عنها في الإعلام حتى ستينات القرن الماضي، كما أن رؤساءها يجب أن يكونوا غير معروفين للجمهور العام أثناء قيامهم بالخدمة! إنه جهاز إرهابي بالمعنى التقني للمفهوم!
ماذا تعني تلك الرواية؟ لا أريد أن يفهم أحد أن تلك الأجهزة لا تقهر أو يضخم في دورها، فمن يديرها بشر وهم قابلون – بصفتهم - للإنجاز أو الفشل، ما أريد أن أصل إليه أنه لا جدال في قاعدة «الشعب الذي يناضل من أجل حقوقه وهو مبتلى بعدد من الرؤوس، عاجز عن تحقيق أقل ما يصبو إليه»، وقد قيل من كثيرين إن ما يقوم عليه القرار الفلسطيني اليوم بشقيه في الغالب عاطفي وبعيد عن العلمية ومتشظٍّ، لذلك يحقق العدو انتصارات بأقل التضحيات، ويُبتلى الشعب الفلسطيني بكثير من الخسائر، بالرغم من التضحيات الكبرى التي تتكبدها الجماهير الفلسطينية تحت الاحتلال وبجواره وفي الشتات.
إن بعُد القرار الفلسطيني عن العلمية، وكان التكالب على استدرار العواطف الوطنية والدينية، فسوف يبقى في معظمه رهيناً للآنية والأهواء...
لقد أُحرقت أصابع الشعب الفلسطيني في السابق جراء خيار بعض القيادات بالانزياح إلى استقطاب غير مبرر في بحر الخلافات العربية، احتلال الكويت واحدة منها، لكنها ليست الوحيدة. كما أن القيادة الثانية في الفضاء الفلسطيني لم تؤهل لتتخطى تلك الأخطاء القاتلة، بل زادتها ضلالاً بالدخول إلى استقطاب إقليمي (إيراني من جهة، وتركي من جهة أخرى)، كل هذا يتسق مع طريقة اتخاذٍ للقرار، أقرب إلى الهوائية والشعاراتية، منها إلى الدراسة العلمية المعمقة والمؤسسية والشجاعة القائمة على حساب مصالح الأغلبية الفلسطينية، لو تم ذلك، وعولج الموضوع كما ينبغي أن يعالج لأصبح طريق الحق الفلسطيني أقرب إلى التحقيق.
آخر الكلام
أخطر ما يُعوق الانعتاق من الاحتلال لأي جماعة وطنية، أن تدخل المعترك مفرقة ومستخفة بالعدو، في الوقت الذي تواجه فيه عدواً موحداً! إلا أن الثقافة لا تُغير بنصيحة!
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع