بقلم - محمد الرميحى
من بين الاخبار المزعجة التى تحيط بنا نحن العرب، رغم الدمار والقتل والحروب الاهلية والبينية المشتعلة، برز أخيرا خبر أكثر إزعاجا، وله تاثيره السلبى على المستقبل العربي، وتداعيات كارثية محتملة على مستقبل هذا الإقليم، ومستقبل السلم او الحرب فيه، والخبر هو إعلان الولايات المتحدة وقف دفع حصتها فى تمويل وكالة الامم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التى كانت تدفعها طوال الفترة السابقة.
تصدت دول عربية بشكل او بآخر لهذا الخبر، وما يحيطه من علاقة معقدة، فقامت مصر بتكثيف جهودها للمصالحة بين الفرقاء الفلسطينيين المتشاجرين، وهى جهود بذلت منذ فترة، الأغرب فيها أن الكل، وأقصد العقلاء من العرب ومن المتفهمين لقضاياهم، يرون ان وحدة الفلسطينيين هى اهم ركيزة لحفظ حقوقهم التاريخية المشروعة، إلا أن بعض الفرقاء الفلسطينيين، لسبب او لآخر، يرون أن الفرقة سبيل للغلبة على هذا الجناح او ذاك من الرفاق، ومع ذلك مازال بعض العرب، ومنهم مصر، يحاولون فى جهود معلنة وخفية بناء جسور بين الجزر الفلسطينية المتباعدة، كما قامت الدبلوماسية الأردنية بنشاط، سوف يتبلور فى الاجتماع المقبل هذا الشهر على هامش الجمعية العامة للامم المتحدة فى الشهر الحالى فى نيويورك، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من رسالة الوكالة، ماليا وسياسيا، ودعوة المجتمع الدولى للقيام بمسئولياته.
هذه الوكالة التى اصبح عمرها ما يقارب السبعين عاما (أنشئت فى ديسمبر 1947) قدمت للاجيال من الشعب الفلسطينى التعليم المعقول والتطبيب! صديق يملك مجموعة من المدارس الخاصة فى إحدى دول الخليج قال لى مرة، انه اعتمد اعتمادا كاملا فى نشاطه التعليمى على مدرسين فلسطينيين من خريجى مدارس وكالة الغوث، والرجل كان يؤكد الكفاءة العالية لخريجى تلك المدارس، فى إشاعة سمعة الجودة لمؤسساته، سواء كانوا خريجين من مدارس الوكالة فى الاردن او سوريا او لبنان او فى الارض المحتلة من فلسطين.
اليوم الجيل الثالث من ابناء اللاجئين يتعلمون ويُطببون فى مؤسسات هذه الهيئة الدولية، وحرمانهم من ذلك يعنى تلقائيا ان يصبح جيلا او اكثر من الفلسطينيين جهلة، عديمى التأهيل، وهذا يمهد الارض ان يُختطفوا جماعات وافرادا من قبل القوى المتشددة فى المنطقة و يتخصبوا بالافكار الراديكالية، ذلك سوف يجلب على المنطقة ككل ويلات من أشكال العنف غير المسبوق، او تدفق للهجرة الى اوروبا.
لذلك فان القرار المتخذ من الإدارة الامريكية قرار يفوق سلبا اى قرار اتخذ حتى الآن، ومن الأوفق إعلاء الصوت، ليس الشعبى فقط، ولكن الدبلوماسى العربي، وان امكن الدولي، من أجل تأكيد ان ذلك القرار خاطئ، وليس ضد مصلحة العرب فقط، ويهيئ الى الأسوأ، ولكن ضد مسيرة السلام العالمي. التبريرات فى تسويق القرار غير مقنعه، فالإدارة الامريكية ترى ان لاحاجة لهذه المؤسسة.
ان اختفاء تلك المؤسسة، يعنى بالضرورة اختفاء تعبير او قضية اللاجئين الفلسطينيين وهى مقاربة ساذجة. السيد محمود عباس يعلن ان القرار اتخذ لتأديب منظمة التحرير، لانها لا توافق على مقترحات قدمتها الإدارة الامريكية تجاه حل القضية الفلسطينية، ربما الاطراف المختلفة لها مبررات مختلفة فى تفسير تلك الخطوة السلبية، إلا انها من منظور مستقبلى سوف تحرم قطاعا واسعا من الفلسطينيين من حق التعليم، وتأهيلهم بعد ذلك الى مسالك معيشية تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية.
انسحاب الولايات المتحدة من التمويل هو عمل سياسى قصير النظر, قد يأتى فى النهاية مضادا حتى لمصالح الولايات المتحدة نفسها، من هنا فان حملة واسعة دبلوماسية وشعبية مطلوبة فى دول العالم لبيان الأضرار المحتملة لمثل هذه الخطوة، وحث الفصائل الفلسطينية المتناحرة على ان موجة من الضغوط قادمة باتجاههم من أجل تصفية القضية على غير ما يرجون او يتوقعون، وأن الفرقة فى هذه المرحلة التاريخية الصعبة، يعنى ضياع الحقوق، وخير طريق للبقاء هو التوجه الى مصالحة وطنية حقيقية، ولقد تعب العالم السياسى العربى كما العالم الدبلوماسى العربي، من رفع الصوت وحث الفرقاء على إيجاد لحمة وطنية فلسطينية تدرأ بعض الاخطار المقبلة، بدلا من هذا العراك العبثى وتمهد لمسار فلسطينى مستغل، بعيدا عن التجاذبات السياسية والمحاور الإقليمية والتحزبات الأيديولوجية التى انهكت الجمهور الأوسع من ابناء النكبة، وعرضتهم للكثير من المعاناة طوال هذه السنين.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع