بقلم - محمد الرميحى
على الرغم من المشكلات الضخمة التى تواجه الأمة العربية، من شرقها الى غربها، وتفرض عليها تحديات غير مسبوقة، منها الاقتصاى والاجتماعى والسياسى، بل حتى العسكرى، فإن قضية لها علاقة مباشرة بما نحن فيه، وهى حمى السباق للحصول على شهادة عليا حتى بالتزوير لدى كثيرين، وعندى ان مهنة جيدة فى اليد او حرفة فنية مضمونة الدخل، خير من ألف شهادة على الرف، إلا اننا دخلنا فى مرحلة ثقافية يمكن تشبيهها بأنها (زمن الشهادات) زمن المظاهر التى حرفت الأهداف العظيمة للعلم من مقاصدها، هذا التكالب على الحصول على شهادة (دكتوراه إن امكن) ،او بحدها الادنى (ماجستير) تستر بها جهل فاضح للبعض ومختبئ خلف ادعاء المظاهر الكاذبة هو آخر الآمال؟.
قضية الشهادات المزورة انفتح منذ أشهر وعلى الواسع ملفها فى الكويت وبعض دول الخليج، ولكنه لم يصل الى ما يجب ان يصل اليه، وهو اغلاق الملف قانونيا واخلاقيا بنجاح، لانه تبين ان الموضوع كبير، وقد اخترق بعض حاملى الشهادات المزورة مؤسسات التعليم، ومؤسسات الدولة، الى حد ان فتح الملف على مصراعيه وتنظيف هذا الجرح مرة واحدة، والى الابد، سوف يفتح جروحا اكبر واعمق؟ لانه تحول من ملف اخلاقى، الى ملف سياسى بامتياز.
ومع فتح الملف من بعض المخلصين، تبين ان هناك شبه عصابات منظمة فى بعض مؤسساتنا وفى الخارج عملها الرئيسى للحصول على دخل مجز، هو تزوير الشهادات، تلبية لرغبة مريضة من البعض لاكمال (الوجاهة الاجتماعية) وتقريبا كل يوم يظهر فى الصحف العربية ان طبيبا يمارس مهنة الطب منذ سنوات، تبين ان شهادته مزورة، أو مهندسا عمل فى تشييد المبانى كان مزورا، او استاذا فى الجامعة درس لأجيال من الشباب، او مسئولا كبير فى الدولة، حتى تعدت الظاهرة ان تكون محصورة، بل هى اصبحت ظاهرة مرضية منتشرة فى معظم إن لم يكن كل المجتماعات العربية! السؤال الذى يتبادر الى الذهن، ألا يوجد تزوير فى الشهادات العليا والجامعية فى مجتمعات اخرى؟ الاجابة بالتأكيد نعم، ولكن الظاهرة هناك محدودة، وعندما تكتشف بعض حالاتها، يتخذ بشأن فاعلها او فاعليها اشد العقاب، ويتم فضحهم ومن تعاون معهم على الملأ وعلى نطاق واسع، فهى اذا لا تشكل ظاهرة عندهم، كما هى بالفعل فى المجتمعات العربية، لان المجتمع هناك لديه آليات الكشف المبكر عن مثل تلك الحماقات، لقد دخل على ملف الشهادات المزورة وسائل الاعلام الحديثة، فقد انتشر فى بعض بلداننا اعلانات على تلك الوسائل تدعى بانها مستعدة (للمعاونة فى الحصول على شهادة عليا) طبعا لمن يدفع، كما انتشرت فى المقابل مواقع إلكترونية هدفها الرئيسى (التبليغ عن الشهادات المزورة) وهكذا يعمل الإعلام الجديد بشكل سلبى مرة و اخرى ايجابى فى هذا الملف الخطير. من التسرع لوم صاحب الشهادة المزورة لوحده على فعله، فهناك من يساعده، على ارتكاب تلك الحماقة، مع الاسف حتى فى مؤسساتنا التعليمية، يساعد البعض على انتشار وتوسع الظاهرة. هذه الظاهرة، تزوير الشهادات العليا بأشكالها المختلفة،إما بالتزوير المباشر او مساعدة البعض للحصول على شهادة فُكر فيها وكتبت من آخرين، او فتح دكاكين لتوزيع مثل تلك الالقاب، لمن يدفع الثمن المعلوم، كلها تصب فى مصب واحد، هو مخادعة المجتمع، والحط من مكانة العلم الرفيعة، واخذ الناس لاشخاص على غير حقيقتهم، بل والحصول على احترام (مزور) من المجتمع وربما دخل ايضا. اما الجانب الثقافى فهو تلك المكانة شبه القدسية التى يضعها المجتمع على اللقب العلمى، على الرغم انه فى تاريخنا العربى القريب والبعيد، كان هناك من الرجال والنساء الافذاذ الذين أسهموا فى رقى مجتمعاتهم، دون التشدق بعنوان لشهادة علمية، وان اردنا عدهم ربما لا نستطيع احصاءهم، ولكن ذلك كان فى زمن غير زماننا.
أرى ان اهمال مثل هذه المظاهر والاهم السكوت عن مناقشتها بشكل اوسع، هو دليل على مرض يصيب المجتمعات، وينقل المستوى الثقافى والاخلاقى الى اسفل الدرجات، وهو من اخطر الامراض الاجتماعية والثقافية التى يمكن ان تصيب المجتمعات، لأن تأثيرها السلبى يتجاوز الاشخاص الى الخطط التنموية فى المجتمع. لن نتخلص من هذه الظاهرة المرضية إلا من خلال طرحها للنقاش واعتبارها قضية راى عام، وانها تعطل التنمية المرجوة، بل تدفع المجتمعات العربية الى الخلف، فى الوقت الذى اصبح العلم بأشكاله المختلفة هو الرافعة الحقيقية للمجتمعات، فسباق العالم المحموم اليوم طريقه وسلاحه العلم، اما اذا احيط المجتمع من جهة بافكار غيبية فى تفسير الظواهر المختلفة، ومن جهة اخرى بشهادات مزورة تزيد الجهل جهلا، فإن هذا النوع من المجتمعات لا يرجى له الافاقة من الغيبوبة فى القريب، بل يبقى فى آخر صف التطور الانسانى.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع