الصيف يذكّر العربي، على الأقل جيلنا، بالثورات العربية، والتي يفضل البعض أن يصفها بالانقلابات، والتي حدثت في معظمها في السنوات ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية السبعينات من القرن العشرين. والسؤال الذي يطرح: هل حققت تلك «الثورات» ما وعدت به عند قيامها؟ وهل العرب بشكل عام، هم أفضل حالاً بعد تلك (الثورات/ الانقلابات) وما صاحبها من صراعات وتغيرات في هيكلية المجتمعات العربية، أم هم أسوأ حالاً، كما يتضح مما نعايشه اليوم؟
ليس بالضرورة أن تكون إعادة الزيارة هي فقط لإظهار مثالب ما مر بنا! ولكن ضرورة إعادة الزيارة كي نفهم أكثر، وربما أعمق من خلال رؤية أكثر خصوبة، ما نحن فيه اليوم من أزمة!
أعرف أن إعادة الزيارة لتلك الأحداث، قد تثير البعض، خاصة إذا تم نقدها، ولكني أعرف أيضاً أن الحديث حولها والنقاش المتجدد قد يقود بصيرتنا إلى شيء أفضل في المستقبل، وإن كان لا يغير الماضي.
كانت أداة التغيير (الثورة/ الانقلاب) في بلادنا العربية في معظمها الأكثر، هي الجيوش، منذ الضباط الأحرار في مصر، إلى الضباط الأحرار في اليمن! وما بينهما من ضباط أحرار! كان الجيش هو القوة الأكثر تنظيماً، والأكثر احتواء في صفوفه على أبناء الطبقة الوسطى الجديدة في مجتمعاتنا، وكانوا في الوقت نفسه بعيدين إلى حد ما عن الفهم السياسي، الذي تشربته القيادات السياسية المخضرمة العربية، والتي أخذت على عاتقها عملية التحديث على الطريقة الغربية أو العالمية، من إنشاء أحزاب سياسية، ومجالس منتخبة، ومؤسسات دولة حديثة يحكمها القانون، سواء كان ذلك في مصر أو العراق أو سوريا، وحتى في ليبيا والسودان.
كانت «موضة العصر العربي» في القرن الماضي هي قيام الضباط بالاستيلاء على الحكم، وهناك تعبير مشهور نقله الراحل حسنين هيكل، عن رأي الرئيس الراحل عبد الناصر، في العقيد الراحل القذافي، عندما قام بانقلابه في ليبيا عام 1969: «إنه يذكرني بشبابي»!
ومرت على العرب في دولهم المختلفة، أو قل في معظم دول الثقل البشري العربي، أشكال من الحكم العسكري، حقق بعضه «إنجازات» اجتماعية، قد يراها البعض محدودة، وأخفق جميعه، على الأقل في نظري، في بناء الدولة. كان الصراع مع «الآخر» الأجنبي، والشقيق «العربي»، قد استنفد معظم طاقة الحكم. لقد تغلبت شهية القبض على الدولة، على حكمة إنشاء مشروع للدولة، فاستخدمت تلك القبضة لإسكات كل رأي خارجها، كما استخدمت تلك القبضة لبناء أجهزة قمعية، لم يكن أفراد الشعب إلا مجبرين على طاعتها، وتقدم الأصدقاء والموالون لقيادة الدولة الأسيرة. كان مثيراً مثلاً أن يترك جيش مصر لقيادة عرف عنها بشكل واسع عدم «انضباطها الذاتي»! فقط لأن عاطفة الأخوة في السلاح السابقة، هي التي قررت استمرار تلك الشخصية حتى الكارثة، أو ترك قيادة شعب مثل الشعب السوري «تركة» لدى أبناء الأسد، فقط لأن عاطفة الأبوة قد تغلبت على حقوق سواد الشعب، أو بقاء شخص مثل العقيد القذافي في الحكم، رغم ما ظهر من خلل في شخصيته واضح وبين؛ فقط لأنه كان من أوائل من فكر في الانقلاب على النظام السابق.
ولأن القبض على الدولة كان الهدف، ولم يكن هناك مشروع لبناء دولة حديثة، نجد أن حكم العسكر في السودان (النميري) يبحث عن «مشروع»، بعد نفاد فترة السماح، وعجز الأجهزة، فاكتشف أن ذلك المشروع الذي قد يبقيه في الحكم هو «الاعتماد على الإسلام السياسي»، فذهب إليه بقضه وقضيضه، بالاشتراك مع الراحل حسن الترابي، فذهب السودان بعد تبديد كثير من الدماء والأموال إلى «التقسيم»، ولا أعتقد أنه تعافى حتى اليوم من آثار تلك الهرولة إلى الإسلام السياسي.
صدام حسين، بعد أن أدخل العراق في متاهات سياسية وعسكرية، ولبس «بدلة العسكر» أخذ العراق في النهاية إلى «المشروع الإسلامي»، الذي سماه «الحملة الإيمانية»، والذي فرخ في نهاية المطاف «الجزء الداعشي» إن لم يكن مباشرة، فهو غير مباشر.
وصل هؤلاء الضباط في الغالب للاستيلاء على الدولة من أجل «تحرير» فلسطين، وانتهى الجميع بخسارة كبيرة.
الأكثر كارثية تغييب النخب الوطنية عن معرفة الآخر (العدو) تحت طائلة المحرم الوطني وحتى الخيانة، فبقي الشعب جاهلاً في مكان، ومتحمساً في مكان آخر، يتلقى اللكمات في الظلام!
لا جدال في أن بعض تلك البلاد العربية في الحكم السابق لوصول العسكر للحكم، كان معظم أبنائها فقيراً وجاهلاً، ولكن لم يكن الجميع في ذلك المكان. كان العراق يملك خططاً تنموية فيما عرف بمجلس الإعمار، ومعظم أموال النفط العراقي كانت تذهب إلى ذلك المجلس، لتنفيذ خطط تنموية مستقبلية. ليبيا كانت تشهد تقدماً بسبب مداخيل النفط. سوريا كانت تتمتع بقوة إنتاج زراعي صناعي مشهود.
في مسيرة تطور المجتمعات وتحليل الخيارات التي تتخذ، ليس لدينا في الغالب، ما يعرف بـ«المجموعة الضابطة»، أو المجموعة المرجعية، التي تمكننا من المقارنة. وربما نحن في بلادنا العربية أكثر حظاً؛ لأن لدينا «مجموعة ضابطة» كان يمكن أن تدخل في سرب الانقلابات، ولكن نفذت منها، وأعطتنا فرصة للمقارنة المرجعية إلى حد كبير، أعني هنا المغرب العربي، فلو قدر نظرياً، أن لوثة «الانقلابات» قد نجحت فيه، فبماذا يمكن أن نتصور المغرب اليوم؟ ربما مقسماً وفقيراً وبعيداً عن مشروع الدولة، لو نجحت إحدى محاولتي الانقلاب في المغرب: الصخيرات، يوليو (تموز) 1971، بقيادة إمحمد إعبابو، وفي أغسطس (آب) عام 1972 بقيادة محمد أوفقير (كلاهما عسكري)، على الراحل الملك الحسن الثاني، لكنهما فشلا، بعد ذلك كفت شهوة الضباط المغاربة للالتحاق بزملائهم في الشرق، إلا أن المسيرة التنموية المغربية اليوم هي بالتأكيد أفضل من حيث النمو الاقتصادي والحريات التي يتمتع بها الشعب المغربي، في دولة مستقرة، من خيار الحكم العسكري.
«المجموعة الضابطة» هذه، تنبئنا بشكل ما بما كان يمكن أن تتطور إليه الأوضاع في كل من العراق وليبيا وسوريا، وغيرها من بلداننا التي أصيبت بداء الانقلابات العسكرية، لو لم تحدث تلك الانقلابات، التي أدت دينامياتها اللاحقة، في نهاية المطاف، إلى أحداث ما يسمى اليوم الربيع العربي. وقد حدث ذلك بسبب افتقاد مزمن للانقلابيين ومن جاء بعدهم إلى مشروع دولة حديثة. فشعب المغرب اليوم ليس مهجراً، ومدنه ليست مهدمة، كما في سوريا، وليس مهدداً بالتقسيم كما في اليمن وليبيا، وكان يمكن أن يقدم العراق الطاقة الكهربائية لجيرانه، بدل بقائه في الظلام! بل ربما كانت تلك الانقلابات العسكرية أحد أسباب التطرف الذي يجوب عالمنا وينزاح إلى عوالم أخرى، منذ زمن، والذي خرج ابتداء من جيب «الإسلام السياسي»، الذي شوه فهم الإسلام، وتصور نفسه بديلاً للبدلة العسكرية في الحكم؛ حيث سدت طرق التعبير السياسي، فكان «الإسلام السياسي» هو «الملاذ»! وهو كمثل سابقه يفتقد إلى مشروع حديث للدولة!
نهاية الأمر، تطور الشعوب له قواعد «علمية»، مهما خرجت عن الطريق، فلا بد أن تعود إليها؛ لأنها الوحيدة الممكنة للحفاظ على الوطن متعافياً وسليماً من الأذى!
آخر الكلام:
شعوب أوروبا والعالم الثالث، مرت بـ«مرارة العرب» نفسها، وانتهت من الفاشية والتوتاليتارية، إلى الحكم الحديث، وهذا ما سوف يحدث في إيران أيضاً، فالسير ضد مسار التاريخ يمكن أن ينجح لفترة، ولكنه نجاح مكتوب عليه الفشل.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع