بقلم : د.محمد الرميحى
محيّرة المقارنة بين ممارسة "الديموقراطية" في بلدان الغرب وممارستها في منطقتنا العربية. ليس بالضرورة أن الممارسة هناك لا تشوبها شائبة، والفرق أنها تصحح نفسها، إما بسرعة أو ببطء ولكنها تصحح الأخطاء. في فضائنا العربي أينما وجدت الديموقراطية بمعناها الفضفاض لا تتوافر معها آليات التصحيح، بل آليات التخريب والتعطيل. وبالتالي فإن شعوبنا تعاني "الأمرّين" في تلك المساحات الضيقة التي يقال عنها إنها "ديموقراطية" تمارس في بعض أوطاننا.
مثال على ما ذهبت اليه، وهو مثال صارخ، ما حدث ويحدث في تونس، وهي بلاد راهن كثيرون على أنها الوحيدة في بلاد العرب التي خرجت من "الربيع العربي" بأقل الجروح وأيضاً ببعض المكاسب.
ما حدث أن أهل تونس توافقوا على دستور 2014، ونصوصه مغرية بل وممتازة، ولكن في التنفيذ أباح البعض لنفسه ما لا تجوز إباحته في أي ديموقراطية، حيث تغلبت النفوس على النصوص والمصالح الجزئية على المصالح العامة. ماطلت الأطراف التي وصلت الى السلطة في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية التي نص عليها الدستور نفسه، والمفروض أن تكون مفسرة له وحكماً بين السلطات، وكانت المماطلة في اختيار الأشخاص، لأن كل فريق يرغب في أن يضع أشخاصاً بعينهم من موالاته، لأنه يعتقد في حالة الاختلاف، أن هؤلاء يمكن أن يميلوا الى وجهة نظره، في وضع شاذ لإعلاء الأشخاص على النصوص. تلك المماطلة أوقعت المجتمع التونسي في المأزق الذي نشاهده أمامنا.
وفي أي تجربة ديموقراطية عربية سنجد أن القضية في النفوس أو بالأحرى في الثقافة السياسية التي تحيط بالمجتمع ونخبته، فالبلاد التي توجد فيها مؤسسة تدعى المحكمة الدستورية في الغالب تستخدم تلك المحكمة لتنفيذ ما تفرضه السلطة عليها، وتلبسه لباس القانون، أو تتدخل السلطة القائمة في تعطيل عمل المحكمة إنْ وجدت أنها تسير في طريق لا يناسبها. المحكمة الدستورية في مصر تمت محاصرتها من اتباع جماعة "الإخوان" في 2 كانون الأول (ديسمبر) 2012 وتم وقتها تعطيل عملها والقصة الكاملة لإعاقة أعمال المحكمة الدستورية في مصر معروفة.
على مقلب آخر، إذا كان هناك رأي يقول إن في لبنان شيئاً من "الانتخابات" التي تشبة الديموقراطية، فقد تم تعطيل التحقيق القضائي في كارثة كبرى وقعت في 4 آب (اغسطس) 2020 تسمى كارثة المرفأ، والفاعل حتى الآن مجهول، رغم أن الحدث قتل فيه 218 من المواطنين اللبنانيين ومن جنسيات أخرى وجرح 7 آلاف، وكأن دماء المواطنين وجروحهم وحتى أموالهم لا معنى لها في مستنقع تجاذب المصالح! عدا أحداث القتل الفردي المتكررة والتي يعرف الجميع مرتكبيها، ولكن لا أحد يُقدم الى محاكمة عادلة!! أو حتى يُفتح نقاش جاد حولها في السدة البرلمانية.
بالمقارنة، فإن أحداث الأسبوع الماضي في بريطانيا تقدم النقيض، لقد كذب رئيس الوزراء الانغلو-سكسوني على الجمهور وعلى زملائه في الحكومة، فقدم اثنان من الوزراء الأساسيين، وزير الخزانة ووزير الصحة استقالتيهما، واللافت أن كلاهما ينتميان الى عائلات مهاجرة من شبه القارة الهندية! لقد كذب الانغلو-سكسوني وصدق الشرقي لأنه تشرب فكرة المصلحة العامة وخدمتها من الثقافة العامة التي عايشها! طبعاً على إثر ذلك خرج من الوزارة عدد كبير من الوزراء لأنهم وجدوا أن الكذب مثلبة كبرى لدى السياسي، ولكن الأهم هنا هو الثقافة السياسية والالتزام الأخلاقي، فهناك خط أحمر لا يجوز لسياسي أو لغيره أن يتخطاه، تلك روح الديموقراطية، لذاك فرضت الاستقالة على رئيس الوزراء الذي كان يماطل فيها.
ورغم مرور ستة عقود على التجربة البرلمانية في الكويت، فإنها لا تزال تتعثر بشدة وتخرج من أزمة لتدخل أخرى بسبب أساسي، من بين أسباب أخرى، وهو أن المشكلة في النفوس وليست في النصوص، لذلك تخضع النصوص الى تفسيرات بعضها متناقض، وتدخل البلاد في أزمات خانقة تجعل المجتمع متوجساً والدولة معطلة.
وإن نظرنا الى ما وصلت اليه نتائج الانتخابات في العراق، فإن الصورة صارخة في تدني احترام نتائج الصناديق، فعلى المجتمع أن يقول ما يريد من خلال الصناديق وعلينا أهل "السطوة" أن نحقق ما نريد، بل وحتى الشكل الظاهري في المحكمة الدستورية ينتقى أفرادها بما لا يحقق المصالح العامة وتفتي بما يرغب فيه المتنفذ صاحب السلاح على الرقاب!
في معظم المهن الإنسانية يحتاج المشتغلون بها الى رخَص وتدريب سابق لتسلم العمل، إلا السياسي، وبخاصة العربي، فيكفي أن يلتحق بحزب له "أسنان" مالية أو مسلح يفرض على الناس خياراتهم، أو بقبيلة أو طائفة ذات شوكة، فيصبح سياسياً لا يشق له غبار ويتجاوز القانون ويشيع الفساد ويغتني على حساب الأغلبية، بل إن بعض قوانين الترشيح في منطقتنا للمناصب السياسية (أعضاء برلمان يشرع للمجتمع) تكتفي بأن يكون قادراً على أن "يقرأ ويكتب"!! الظاهرة المصاحبة للممارسة "الديموقراطية العربية" أن منتسبيها في الغالب يشكلون نادياً وينتاب بعضهم "مرض الكرسي" الذي يحنون إليه ويقاتلون من أجله!
اختصار التجربة العربية ورغم محدودية الممارسة الديموقراطية، الغالب فيها هو مكافأة الفاشلين بإعادتهم تكراراً الى كراسي التشريع. ترى أين الخلل؟ بالتأكيد ليس في النصوص!