توقيت القاهرة المحلي 10:33:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قراءة في المشهد التونسي

  مصر اليوم -

قراءة في المشهد التونسي

بقلم : د.محمد الرميحى

كانت الفكرة لدى كثيرين أن تونس استثناء في مشهد العواصف الكارثية التي ألمت بالمنطقة العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين... هي ليست استثناء، بل هي الواقع الذي يثبت التشابه في النتائج وإن اختلفت التفاصيل. الاثنين الماضي ذهب التونسيون إلى صناديق الاقتراع من أجل التصويت على الدستور الجديد، وقد يسمى دستور قيس سعيد، لأن نَفَس أستاذ القانون الدستوري، الذي أصبح رئيس جمهورية، نافذ فيه. إلا أن الاستفتاء ليس نهاية المطاف، فالمخاض التونسي طويل وعسير، حيث أظهرت النتائج الأولية ضعف الإقبال على التصويت ولكنه مر، في خضم انقسام اجتماعي عسير.
اليوم أصبح معروفاً كم من الفساد ساد في نظام زين العابدين بن علي، لقد تحدث الصامتون ورؤساء الشركات، خصوصاً الأجنبية، عن الدفعات التي كانت تقدم تحت الطاولة في المشاريع التي تنفذها تلك الشركات في تونس وقتها، فقد كانت الدولة لها وكيل، والرئيس له وكيل آخر. ذلك الفساد وإن حدث الانقلاب لم يُجتث تماماً، بل جاءت مجموعات حاكمة أصبح لها مصالح متنوعة تدفعها للسكوت عن ذلك الفساد القديم، وابتكار فساد جديد أصبح موثقاً.
المشهد العام في تونس يشير إلى ثلاث حقائق أساسية، وتفيض تلك الحقائق من تونس إلى معظم المشهد العربي منذ نهاية العشرية الأولى من هذا القرن.
الحقيقة الأولى هي بعربية فصيحة فشل الإسلام الحركي في تقديم نموذج حكم مدني حديث شفاف وديمقراطي تنموي، فقد افتقد الحكم في تونس الأربعة أركان السابقة التي كانت نخبة تونس تتمنى تحقيقها.
لقد قام ذلك الحكم على شعارات، ولم يقدم أي ابتكار في ممارساته للحكم... وضع الآيديولوجيا قبل الناس في وقت يتطلب الحكم الرشيد وضع الناس قبل أي آيديولوجيات! كان همه الاستحواذ والتخطيط لحكم طويل في معظمه قمعي. صحح من خطواته في المشهد الاجتماعي عندما وجد رفاقه في الحكم في بلاد عربية أخرى من طينته وتفكيره يفشلون واحداً بعد الآخر في مصر والسودان، إلا أن توجهه السياسي لم يتغير في الجوهر، فلم تعد الدولة التونسية لكل التونسيين، بل أصبحت لبعضهم فقط، وفي الحقيقة أنها لم تكن قادرة على تقديم أفضل مما قامت به، لأن بنيتها الفكرية لا تسمح بذلك، وأي تجربة في المستقبل قائمة على الإسلام الحركي سوف تواجه بالفشل، تلك هي الطبيعة الثانية لتك الحركات بصرف النظر عن نيات الأشخاص الطيبين الذين اعتقدوا، أو بعضهم لا يزال يعتقد، أن الإسلام الحركي يمكن أن يقدم الترياق اللازم في «النهضة المرجوة»، هي سراب على الورق.
الحقيقة الثانية، وقد يكون الحديث حولها مؤلماً للبعض، أن شعوبنا كافة، إلا من رحم ربي، وهو قليل، تتوق لحكم الفرد. لقد أصيبت تونس أو نخبتها بفكرة لا يمكن زرعها في المجتمع التونسي، وهي الحكم من خلال شيء غامض ومشترك اسمه «الحكم الرئاسي البرلماني»، ونتج عن ذلك في الواقع ثلاثة رؤوس للدولة التونسية؛ البرلمان ورئيسه! والحكومة ورئيسها، ورئيس الدولة (الجمهورية) الذي هو رئيس بلا سلطات تقريباً. ونشأ من هذه الترويكا مجموعة من المشكلات منها أن رئيس البرلمان بدأ يتصرف بالتوازي مع وزير الخارجية، بل ورئيس الجمهورية؛ يستقبل السفراء ويعقد الاتفاقات ويقبل التبرعات، ورئيس حكومة له سلطة على الورق مقيدة بعدد مقاعد الأحزاب الممثلة في الوزارة، ورئيس جمهورية (جهوري) في كلامه، ومنتخب من العامة ولا سلطات له، ولكنه الملوم على الفشل الذي أصاب الدولة. حدث ذلك الصراع أمام الجمهور العام التونسي، فتوسعت أبواب الفساد وزادت أعداد المستفيدين منهم من ضرع الدولة، ووضعت أجهزة الدولة السيادية تحت إمرة ثلاثية متناقضة لم تعرفها تونس في عصرها الحديث، فضاعت البوصلة، وتراجع الاقتصاد الذي كان مزدهراً نسبياً.
يحن التونسيون إلى الرئيس الشمولي، وربما العادل نسبياً، كما في عصر المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، الذي تعودت أجيال أن تسمع أقواله كل صباح في الإذاعة التونسية (من أقوال الزعيم)، وهي دروس يومية على المستمع التونسي أن ينصت إليها باحترام قبل الذهاب إلى عمله أو مدرسته!
استبدل بالشمولي وربما العادل ثلاثية لم يهضمها المجتمع التونسي على اتساعه، بل وشهد تعطيلاً في المؤسسات ومحاصصة مسمومة، وتغييراً في الوجوه، وصراعاً في الظاهر من خلال الصناديق الانتخابية، وفي الواقع من خلال الحسابات البنكية، وبعضها ارتهن علناً إلى الخارج، ففرغت الخزينة التي أصبحت هدفاً مباشراً للقوى الجديدة، بعد أن استنزفها النظام القديم، من هنا أصبح الشعور العام التونسي يحن إلى «الشمولي العادل»، ويذكر كثيراً المجاهد الأكبر، بل وشريحة منه تذكر بن علي بشيء من الحنين! لذلك كان هناك قبول نسبي لخطوات الرئيس، ولكن يبدو أنه فشل في ضبط المواقيت!
الحقيقة الثالثة هي محصلة للحقيقتين الأولى والثانية، وهي أن الثقافة العربية السياسية لا تقبل المشاركة، أو بالأحرى لا تعرف كيف يمكن إنجاح الشراكة مع تعدد الاجتهادات، هي ثقافة سياسية شمولية (لا أريكم إلا ما أرى)، وهي مكون ثقافي يتجاوز تونس ليعم على المجتمعات العربية لولا الخوف من الخطأ المنهجي لقلت جميعها!

بالدستور الجديد لا تخرج تونس من المأزق، بل ربما توسع المأزق، وتدخل في متاهات مستقبلية، خصوصاً من خلال عوار تحصين الرئيس دستورياً، من دون آلية مساءلة أو طريقة استبداله في حالة العجز أو الخروج على الدستور. حتى لو افترضنا حسن السريرة لرئيس الدولة من يضمن سلوك خلفه! ذلك ما تتوجس منه النخب المستنيرة من التونسيين بل وحتى جيران تونس. وقد يؤسس الدستور الجديد لعودة من أراد أن يتخلص منهم قيس سعيد، «ليس حباً في علي ولكن كرهاً لمعاوية»! لقد تجاهل العمل الدستوري الجديد في تونس أهم قاعدة في كتابة العقد الاجتماعي التي تقول «إن أردنا أن نقيم عقداً اجتماعياً دائماً، فلا نحلم أن يكون خالداً، بل يُبنى من خلاله قواعد تجديده»، لأن القاعدة الاجتماعية في كل تاريخ البشرية تقول إن التغيير هو الثابت الوحيد في حياة الشعوب.
آخر الكلام:
كتب على باب ضريح الحبيب بورقيبة: «هنا يرقد باني تونس الحديثة ومحرر المرأة»... هل تتراجع الشعوب عن منجزاتها؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قراءة في المشهد التونسي قراءة في المشهد التونسي



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon