توقيت القاهرة المحلي 11:36:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العراق و(خفة الدم)!

  مصر اليوم -

العراق وخفة الدم

بقلم : د.محمد الرميحى

أستخدم (خفة الدم) هنا كمصطلح معروف بمعنى (أهل نكتة) كما أستخدمه في الجزء الثاني كتعبير مجازي عن (رخص الدم العراقي). أبدأ بالأولى، فليس معروفاً على نطاق واسع أن العراقيين أبناء نكتة. نعم ظهر فيهم من كان خفيف الظل، ولكن في الغالب الشخصية العراقية فيها من الصرامة أكثر مما فيها من (الملحة) على عكس أهل مصر الذين اشتهروا بالنكتة، وقد تسمع في مصر بين كل نكتة وأخرى واحدة ثالثة.
خفة الدم العراقي مؤخراً ظهرت من خلال تصريحات أصبحت معروفة وموثقة من اثنين من قادة «الإطار التنسيقي» (اسم أصبح السياسيون العراقيون متميزين في إطلاق الأسماء العجيبة). الاثنان قالا نفس الكلام وتقريباً بنفس الحروف. قال أحدهما يخاطب جمهوره «لقد كنت في زيارة لكوريا الجنوبية وسألني البعض هناك كيف تخلصتم من وجود الأميركان، ونحن نجاهد للتخلص منهم أكثر من نصف قرن ولم نستطع»؟! وقال القائد الثاني في «الإطار» متأكداً أنه «كان في اليابان وسئلت هناك كيف تخلصتم من الوجود الأميركي ونحن نعاني منه طوال أكثر من نصف قرن وغير قادرين على ذلك»... لا بد من الإشارة إلى أن المضمون الذي أراده (القائدان) أنهما من (أبطال التاريخ الحديث) حيث (طردا) (الاحتلال) الأميركي!!
أين خفة الدم هنا؟ إذا لم يكن القارئ الحصيف قد لمحها، هي في الواقع أن القائدين الفذين وغيرهما لولا الأميركان لظلا يبيعان الوهم في المنافي، من دون أن يعرفهما أحد! هي خفة دم ممزوجة بالكثير من الكوميديا السوداء؛ أولاً لأنهما اعتقدا أن من يسمعهما سوف يصدق القول، وفيه على الأقل خرقان كبيران، فليس معروفاً على نطاق عالمي أن كوريا الجنوبية أو اليابان ترغبان في التخلص من الوجود الأميركي، على العكس فإن الرغبة الرسمية والحكومية في هذين البلدين ترى أن يكون هذا الوجود أكثر موثوقية وديمومة. أما الخرق الثاني فقد اعتقدا أنهما يخاطبان ربما جمهوراً من (الحمقى)، وتناسيا أن في بلاد الرافدين عقولاً نيرة تستهجن تلك الخفة السياسية في الطبقة السياسية الجديدة التي نبتت في العراق بدون أدنى فهم سياسي مناسب للعصر، وينم سلوكهما عن أن فهمهما للعالم هو فقط محصور بجمهورهما الذي يشبهما! في وقت تعاني فيه الجماهير العراقية الفقر والبطالة. تفتقد معظم الطبقة السياسية بشكل عام التي أُفرزت بعد سقوط النظام السابق كلاً من الخبرة والحصافة، لذلك دخل العراق طريقاً مسدوداً لا خروج منه.
أما (خفة الدم العراقي) مجازاً في الثانية، بمعنى رخصه، فقد واصلت مسيرتها الدموية منذ أن قتل جندي أحمق عائلة بكاملها كانت قد سلمت نفسها في صبيحة يوم 14 يوليو (تموز) 1958 في قصر الرحاب الذي سمي بنزق (قصر النهاية)... منذ ذلك الوقت ومطحنة الدم العراقي لم تتوقف، فقُتل عبد الكريم قاسم في 8 فبراير (شباط) 1963 شر قتلة على كرسي في مبنى الإذاعة العراقية مع صفيه صاحب (محكمة الثورة) المضحكة في جلساتها (أيضاً ضحكاً مراً) وهو فاضل عباس المهداوي، والتي سميت محكمته العسكرية (مسرح العبث) التي كانت جلساتها تبث علناً في إذاعة وتلفزيون بغداد؛ أرسل الآلاف من العراقيين إلى حتفهم أولاً من رجال العهد القديم، ومن ثم من رجال ثورة عبد الوهاب الشواف التي اندلعت في الموصل في مارس (آذار) 1959، وأخيراً من (رجال الزعيم).
استمر حمام الدم في الانقلابات والتصفيات طوال عقود زمنية في العراق، وجاء صدام حسين ليقتل البشر بمجرد الشك فيهم، ثم أدخل العراق في حروب دفع فيها المواطن العراقي الكثير من الدم والعظيم من التضحيات. لم يتعلم أحد من هذه السلسلة الطويلة من تاريخ الدم العراقي، وحتى بعد سقوط النظام البعثي لم تنجُ قيادات دينية من القتل فقد اغتيل كل من عبد المجيد الخوئي ومحمد باقر الحكيم قرب ضريح الإمام علي في النجف، ثم بدأت التصفيات من خلال (المسدسات الكاتمة للصوت) فلم يعد أحد آمناً في العراق حتى اليوم.
حتى الساعة لم يظهر مشروع عراقي وطني عابر للتشرذم الطائفي وحديث يبتعد عن الماضي الدموي السلبي، كما يفارق البوصلة (التراثية المتمثلة في سيطرة رجال دين على السياسة) كي يبني عراقاً حديثاً منسجماً مع محيطه العربي والدولي، ذلك المشروع وإن كان في الحاضنة لبعض النخب العراقية إلا أنه لم يخرج على السطح، لأسباب عدة، منها كما هو ظاهر الخشوع الظاهري لرجال الدين (المذهب) ومنها الطبيعة الفردانية التي تتصف بها الشخصية العراقية في العموم، والتي وصفها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي بأنها (شخصية ازدواجية تحمل قيم البداوة والحضارة، فالعراقي أكثر هياماً بالقيم العليا ودعوته إليها في خطابه وكتاباته، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في حياته)، وبسبب موقفه التحليلي هوجم الوردي ربما لأنه وضع يده على الوجع العراقي، وجاء من بعده أستاذ اجتماع حديث هو الراحل فالح عبد الجبار في كتابه المتميز (العمامة والأفندي). مع الأسف فالح لم يحز نقداً واسعاً ومعرفة، لكنه من المدرسة الحديثة التي شخصت الوضع العراقي كما شهده وقد مر عليه حكم البعث القمعي والتحرير الذي انحرف، فوصف المعضلة العراقية الحالية خير توصيف.
لا يبدو في الوضع القائم أن إيران في وارد التخلي عن العراق، كما لا يبدو أن الطبقة السياسية العراقية الموالية لها سوف تسلم بخطيئة الالتحاق بمشروع نكوصي، لأن المصالح هنا هي المتحكمة. ونشهد في العراق انشقاقات سياسية تؤذن بتفكك الدولة العراقية كما عرفت بعد الحرب العالمية الثانية.
ذاك أمر يقرع الجرس في الدول المحيطة، فقد يُتخذ العراق كمنصة قفز لإشاعة الفوضى في الإقليم، بسبب ضعف الدولة وهزالها، وليس من الأسرار أن قوى موالية لإيران تقوم باحتضان وتدريب المنشقين من بعض دول الجوار، كما ليس مستبعداً أن تنتعش قوى الإرهاب في هكذا حاضنة رثة.
آخر الكلام:
يكتب فالح عبد الجبار (يخلط رجال الدين والسياسة في العراق في فهمهم للدولة بين الفهم الاجتماعي (المادي)، وبين الفهم (المثالي)، مما يشكل اضطراباً في الوعي وتناقضاً في الممارسة).

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العراق وخفة الدم العراق وخفة الدم



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon