توقيت القاهرة المحلي 11:13:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من يصنع التقدم؟

  مصر اليوم -

من يصنع التقدم

بقلم : د.محمد الرميحى

في أغسطس (آب) عام 1979 (أي منذ أكثر من أربعين عاماً) أصدرت سلسلة كتاب «عالم المعرفة» التي ينتجها «المجلس الوطني للثقافة» في الكويت كتاباً مهماً، وكان بعنوان «التفكير السليم والتفكير الأعوج»، ويشرح أن التفكير الأعوج هو إضافة صيغة انفعالية على الكلمات والجمل لإقناع القارئ أو المستمع بصواب ما ذهب إليه القائل؛ أي إثارة المشاعر لتحفيز جمهور معين إلى التفكير بطريقة محددة تقود إلى هدف محدد، أما التفكير السليم فهو ما تحمله الكلمات والجمل من حقائق لا تعتورها عاطفة أو إثارة، بل تقدم كحقائق موضوعية دون زيف، لا تهوين أو تهويل فيها.
ما دفع للتذكير بهذا الكتاب هو مقالة لأحدهم في الكويت، حيث كتب أن (أسباب كارثة عاصفة الثلوج التي ضربت أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة هو توقيع جو بايدن في نفس الأسبوع قانوناً يساوي فيه المثليين ببقية الناس)! ونسي الكاتب أن يفسر لقرّائه أسباب كارثة فيضانات باكستان، التي ألمت بملايين من المسلمين الفقراء وشردتهم، على الرغم من أن حكومة باكستان لم تقرب قضية المثليين)! فأفراد بيننا ودول حولنا تفكر بذلك المنطق الذي وصفه الكتاب (التفكير الأعوج)!
طرح الموضوع بطريقة أشمل فإن السائدة في النقاش في الفضاء العربي السياسي والتنموي حول التنمية ينم من جديد عن ذلك التفكير (غير السوي)، فما إن تطرح معضلة (التنمية) في الدول العربية حتى تسمع من يقول لك مثلاً إن مصر قبل خمسين عاماً كان ناتجها القومي أكثر مرتين من فيتنام، واليوم فيتنام تنتج أكثر من مصر خمساً وعشرين مرة! أو أن سنغافورة تقودها امرأة مسلمة حققت ناتجاً قومياً في بلدها يتساوى تقريباً مع كوريا الجنوبية، إلى الكثير من هذا النوع من الخطاب المقارن والذي يثير العواطف، وربما الشعور بالعجز، والتساؤل: لم لا نحقق (نحن العرب) في أوطاننا تلك التنمية المرادة؟
الحقيقة الشاخصة أن بعض البلدان العربية قد حققت شيئاً من التنمية، وأخرى فشلت وما زالت تفشل في تحقيق أي مستوى معقول من التنمية. كما أن مفهوم التنمية مختلف عليه؛ فهو عند البعض زيادة مادية بحتة، وعند الآخرين (وهو التعريف الأسلم) تقدُّم المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتنموياً واجتماعياً وصناعياً وخدمياً وقانونياً وعلمياً؛ أي حزمة من العناصر التي تساند بعضها بعضاً.
الملاحظ أن تحقيق التنمية الشاملة ليس هدفاً مستحيلاً، إنما يحتاج إلى أدوات، إن توفرت يمكن تحقيق التنمية (حتى بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود موارد طبيعية في ذلك المجتمع). المهم أن يتوفر (التفكير الصحيح) والمفارق (للخرافة والأهواء).
من أدوات التنمية القيادةُ الواعية ذات المشروع الواضح، والمعتمدة على العلم الحديث في الإدارة، وغياب القيادة والمشروع التنموي يعطل أي طموح تنموي، حتى لو كان المجتمع صاحب ثروة في الموارد. الثروة يمكن أن تُبدد من قيادة جاهلة على مشروعات ليس لها علاقة بالتنمية.
في الغالب إذا توفرت القيادة الواعية المعتمدة على مشروع واقعي وعلمي، فإنها أيضاً تعتمد على العلم، وتضع في أول أولوياتها ترقية التعليم والتدريب والبحث العلمي، كما أنها تعتمد على مؤسسات (لا أفراد) تسير على قواعد قانونية حديثة وصارمة التطبيق وكفالة احترامها، وبكوادر تعتمد الكفاءة والإنجاز، لا القرابة والمعرفة.
بالنظر إلى التجربة العربية في الإدارة (وهنا أتحدث عن الغالبية وليس الكل) فإنك سوف تجد أن أي جماعة تصل إلى الحكم سرعان ما تشكل شبكة قرابة من خلال التزاوج الداخلي. لقد كانت تلك الظاهرة واضحة في مصر بعد سنوات قليلة من ثورة 1952، كما ظهرت في العراق بعد عام 1958، وفي ليبيا واليمن وسوريا، حتى كادت (الجمهوريات) تتوارث، وأي قراءة معمقة لشبكة القرابة فإنها إن لم تكن موجودة، فيجتهد في تكوينها مع مرور الزمن.
القرابة بحد ذاتها ليست مشكلة، والمشكلة جلُّها يقع في الافتراض الخاطئ أن (الأقربين) هم من العباقرة في الإدارة. هنا يكمن الخلل، قد يكون بعض الأفراد قادرين على الإدارة، ولكن ليس كلهم كما هو الواقع، كما أن العلاقات القرابية تعطل (المأسسة) أي بناء مؤسسات، فيصبح العمل العام معتمداً (على من تعرف لا ما تعرف)! في معظم الدول العربية ثروة من الخبرات الإنسانية المتقدمة، ولكنها معطلة؛ لأنها ليست في دائرة (القرابة) لعل أفضل مثال يمكن الإشارة إليه هو لبنان، فهذا البلد يوزِّع خبراءه إلى العالم في معظم مجالات الإنتاج والخدمات، ولكن في قيادة المجتمع السياسي يفضل (النسيب) على أي خبرة أخرى، حتى لو كان أخرق!مجمل تلك الأسباب ليست معطِّلة للتنمية فقط، بل مفككة للأوطان، كما نرى اليوم في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن وليبيا والسودان، بل حتى تونس. لقد ساد حيناً من الدهر، وربما ما زال قائماً، أن (أخذ الناس إلى الحروب) أسهل من أخذهم إلى التنمية، تلك الحروب الأهلية أو البينية سوف تكلف التنمية العربية ثمناً هائلاً، على رأسه الفرص الضائعة لتعليم جيل كامل سوف يشب إلى الدنيا جاهلاً، سهل القيادة إلى أفكار ظلامية ومعوجة.
في مجمل العالم العربي لا نقص في الثروات، سواء كانت ثروات مادية أو إنسانية، لكنّ هناك فقراً شديداً في القيادات والمأسسة، وفي الأهداف المراد تحقيقها.
نجاح الآخرين ليس لأنهم (بشر مختلف)، وليس لأنهم أصحاب ديانات بعينها، أو ثقافات مختلفة لها خصائص متفوقة. معظم النجاح التنموي في العالم تحقق بإرادة وإدارة قريبة إلى العلمية وبعيدة عن العاطفة، وبوضع أهداف للمجتمع، والاستعانة بكفاءات لتحقيقها، مع قواعد قانونية حديثة. ذلك ما نفتقر إليه بشدة، وبغيابه تتسرب إلى العمل العام تلك الأمراض التي تدعى بالفساد والمحسوبية والزبائنية والتفكير الأعوج القائم على الأساطير بكل تنوعاتها ومشاربها.

آخر الكلام:
لم يكن من الممكن أن تصل الإنسانية إلى ما وصلت إليه إلا بإضفاء الطابع التقني على الكلمة، فلم تعد الكلمة تطلق على عواهنها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من يصنع التقدم من يصنع التقدم



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon