بقلم : د.محمد الرميحى
خرجت تونس من عاصفة الربيع العربي كأيقونة ناجحة في الانتقال السلمي إلى ما بدا أنه ديمقراطية ناشئة ومجتمع مدني، وذهبت معظم التحليلات أن شعباً عربياً يمكن أن يبحر بوطنه في ظل الظروف الصعبة إلى مرفأ آمن، وهذه تونس تخرج لنا دستوراً مكتوباً من أفضل الدساتير بعد اضطرابات عام 2010/ 2011 هكذا سار الحال، وعلى الرغم من أن دستور 2014 الذي صاغه مجلس تأسيسي منتخب من حيث النصوص شبه متكامل، ويحقق غرض الديمقراطية التمثيلية من حيث حرية العمل الحزبي وتمكين المرأة ورعاية الدولة لمواطنيها، وعدداً من الإشارات الإيجابية، إلا أنه سرعان ما تبينت حقيقة راسخة وهي أن (النصوص تختلف عن النفوس)، فلم يكن هناك تقاليد ديمقراطية يمكن لها أن تحمل النصوص إلى سلوك سياسي سوي، ذلك لم يتوفر. فللدستور والدستورية قصة طويلة في تونس منذ أول دستور لها عام 1857 حتى دستور الاستقلال 1961 مروراً بعدد من الدساتير، وقد حكم تونس معظم سنوات الاستقلال حزب يسمي نفسه الحزب (الدستوري)، رغم تلك الأهمية الشكلية للفكرة الدستورية، فإن تغيير الدساتير لا يزال بتلك الخفة التي نشاهد!
تبين في الممارسة - بعد التغيير الجذري 2010 -2011 أن حزب النهضة (وهو شكل من أشكال الإسلام الحركي) اعتقد أو على الأقل النافذون فيه أنه (يملك الحقيقة المطلقة) ليس هذا فحسب، بل في مرحلة تسيده السلطة استنزف مال الدولة التونسية على ما سماه (تعويض المتضررين) والمتضررون هم حصراً مناصروه الذين (اضطهدوا ولوحقوا) في عصر زين الدين بن على! وعلى عكس التجربة المغاربية التي استفادت بشكل ناجح من دعم صندوق النقد الدولي، بُددت ميزانية تونس، وكانت تحقق نجاحاً نسبياً في آخر سنوات بن على، بُددت على الرفاق. زاد الأمر بلة في توزيع وتقاسم المناصب، فتم تطبيق ممارسة في الغالب (عربية) بأن الحزب الحاكم يتحكم في الدولة ويبرر لنفسه إزاحة الفنيين وإحلال السياسيين أو بالأحرى الموالين في الوظيفة العامة، كما تحولت الندوة البرلمانية إلى ساحة لصياح ديكة وقد شهد العالم عدداً من المشاجرات الحري بها أن تقع في الحارات الشعبية وليس في تجمع المفروض أن يكون نخبوياً كالبرلمان.
بقية القصة معروفة، فحدث أن جاءت حركة 25 يوليو (تموز) 2021 محمولة على ازدراء واسع من الممارسة لـ«النهضة» أولاً والممارسة البرلمانية ثانياً، ولم تجد حركة قيس سعيد أمامها إلا أقلية لمعارضتها، إلا أن تلك الحركة كانت تعرف ما لا تريد، ولكن لا تعرف ما تريد على وجه الدقة، وبمرور الزمن والتباطؤ في رسم خريطة طريق لإنقاذ تونس مما كانت فيه، جاءت خطوات الرئيس قيس سعيد بطيئة ومترددة، وأخذت القوى التي باركت أو سكتت عن ذلك التغيير رجاء الأفضل تنفض عن حركة 25 يوليو حتى وصلت إلى كارثة الانتخابات الأخيرة (الفضيحة) فقط أقل من 12 في المائة ممن يحق لهم التصويت ذهبوا إلى صناديق الاقتراع!!
قيس سعيد ذو خلفية أكاديمية وربما هو السياسي الوحيد في تونس منذ الاستقلال الذي يخاطب شعبه باللغة العربية الفصحى نقلاً ربما عن قاعة المحاضرات في الجامعة، إذ كل أو على وجه الدقة معظم السياسيين التونسيين كانوا إما يتكلمون بالدارجة التونسية، أو خليط منها مع العربية والفرنسية.
ملاحظة الحديث بالعربية الفصحى ليست جانبية، إنما هي في صلب الأزمة التي تتبلور أمامنا، إذ كشفت عن انفصال كامل عن الواقع، الذي تكرر في إنشاء لجنة لصياغة دستور ثم تعديله على المستوى الشخصي ومن ثم نشره وتبين بعد النشر أن به أخطاء لغوية فتم سحبه ثم إعادة نشره. لقد قرر سعيد أن يتبع سياسة (الإهمال الحميد) لقوى سياسية بعينها ثم توسع في تلك السياسة حتى غدا خارج كل القوى الحية التونسية.
انتهى الأمر إلى صيغة سياسية هجينة وهلامية ابتعدت عنها معظم القوى السياسية التونسية والنخب، قاد كل ذلك إلى النتيجة الهزيلة في الانتخابات التي تمت في 17 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، حتى اختيار اليوم الذي حرق بوعزيزي نفسه وأشعل الثورة التونسية ليصادف الانتخابات لم يلتفت إليه أحد.
ليس المهم الماضي ولكن محاولة قراءة المستقبل هي الأهم.
من المؤشرات أن الهدف من حركة 25 يوليو 2021 كان تقليص الإسلام الحركي. انتهت سلسلة الأخطاء المتوالية بتقوية شوكة الإسلام الحركي، فقد استطاع الأخير أن يندمج مع مرور الزمن مع كل المتضررين في تيار تحالفي واسع، وبالتأكيد ما إن ينجح ذلك التيار التحالفي في تغيير شيء من الواقع حتى ينقلب الإسلام الحركي على حلفائه كما فعل في كثير من المناطق العربية، فبناء الجبهات في البيئة السياسية العربية دائماً موقت وهش، وذلك ما تكرر في تجارب عربية أخرى كثيرة.
على أقل تقدير فإن تونس لم تنتهِ من الأزمة، هي دخلت أزمة جديدة وقاسية، من مؤشراتها أيضاً عزلة دولية جراء السياسات الطوباوية للأستاذ الجامعي صاحب الخبرة القليلة في السياسة، فلا الجوار الأوروبي مساند، بل ناقد وقد امتنع حتى عن إرسال مراقبين للانتخابات الأخيرة.
من المحتمل أن يظل السيد قيس سعيد في تنفيذ ما يراه، إلا أن ذلك ليس له علاقة بما يعرف بالسياسة الواقعية، فكل ما انتقد فيه «النهضة»، ربما كرره بطريقة أو أخرى، كما امتنع أو تباطأ صندوق النقد الدولي في تقديم قرض مطلوب لتونس لإنقاذ الاقتصاد من التدهور.
القلق أن تسير تونس إلى أحد السيناريوهات؛ إما إلى السيناريو الليبي، وهو تشكيلة من التشرذم الداخلي والتدخل الخارجي، أو السيناريو العراقي، إذ يدفع بعض المتشددين إلى ربح جزء من التونسيين العاطلين والغاضبين إلى مكان نزاع ميليشياوي.
المراهنة الأولى للبعض على أن الطلائع التونسية مختلفة عن بقية العرب في ثقافتها السياسية وأنتجت (ديمقراطية)! اتضح أنها مراهنة خاطئة، وقد ثبت بما يشبه اليقين أن الاستعداد أو التأهيل الثقافي غير كافٍ إن لم يكن معدوماً لاستقبال ثقافة ديمقراطية تؤمن أنه لا أحد يملك الحقيقة الكاملة في إدارة المجتمع الذي لا يدار لا بالآيديولوجيا أو بالطوباوية.
آخر الكلام:
من أقوال الزعيم بورقيبة: (لا أعتقد أن الوقت ملائم للحديث عن الديمقراطية في مفهومها المطلق، فالمجتمعات العربية همشت مفكريها لصالح شيوخ توقف الزمن بهم لأربعة عشر قرناً).