بقلم - محمد الرميحى
نشأ جيلنا على أن القضية الفلسطينية هي القضية الكبرى، وما زال بعضنا يعتقد بذلك، إلا أن هذه القضية التي ربما هي (أُم القضايا) في الفضاء العربي منذ قرن، كما أنها جذر كل الأزمات اللاحقة منذ زوال الاستعمار التي ألمت بالعرب ولا تزال، لم تتوفر لها بعد البوصلة الصحيحة التي تقود إلى شيء من الانفراج. لب الموضوع لهذا الانسداد شبه التاريخي، ما قاله الصحافي الراحل أحمد بهاء الدين منذ زمن طويل، فقد قال ما معناه: «جاءونا بعلم أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقابلناهم بألسنتنا»! في إشارة واضحة للفرق في منهجية التصدي لقضية معقدة بالتفكير العلمي الصحيح من جهة، وبين مواجهتها بالعواطف والخطب والاتكال الخرافي من جهة أخرى.
أعرف أن طرح هذا الموضوع له حساسية لدى البعض، ولكني على يقين بأننا إن لم نشر إليه، فنحن نحاول «تغطية الشمس بمنخل»، كما يقول المثل.
آخر ما حدث هو مقتل المواطن الفلسطيني المتخصص في الطاقة في العاصمة الماليزية كوالالمبور، فادي محمد البطش، واتهام السلطات الماليزية بأن الاغتيال «من عمل شخصين يشتبه بارتباطهما بوكالة استخبارات أجنبية»، أما حركة حماس (والبطش عضو فيها كما تقول) فجزمت أن من قتله هو «الموساد» الإسرائيلي.
ويأتي هذا الاغتيال ليذكّر بخلفية سلسلة طويلة من الاغتيالات المتكررة للكوادر الفلسطينية العلمية والسياسية، وقد أصبحت العمليات معروفة وموثقة، حتى في كتاب إسرائيلي بعنوان «انهض واقتل أولاً» لرونن بيرغمان، متوفر على «أمازون» بمبلغ زهيد، والذي قال فيه إن هناك أكثر من 2700 عملية اغتيال في تاريخ إسرائيل، منها اغتيال القياديين في بيروت 1973 (أبو يوسف النجار، والكمالين عدوان وناصر)، حتى اغتيال محمود المبحوح في دبي 2010، مروراً بعدد كبير من الاغتيالات المعروفة والموثقة، منها وديع حداد في ألمانيا الشرقية وقتها، من خلال «معجون أسنان مسموم»! وليس انتهاء باغتيال ماجد أبو شرار تفجيراً في غرفة فندق في روما!
المؤسف أن كل تلك الاغتيالات لم تنبه إلى أخذ الحيطة من قبل تلك الأهداف المحتملة من أهل المعرفة والسياسة الفلسطينيين! كثير منا اعتقد في وقت ما أن الشعب الفلسطيني لديه كثير من العقليات العلمية التي تقود إلى التفكير العلمي المنظم، فقد كان هذا الشعب نشيطاً في تلقي العلم، قبل الهزيمة في عام 1948، وبعدها اشتد طلبه للعلم في المَهاجر، إلى درجة أن دول الخليج اعتمدت في إقلاعها التعليمي على تلك الكوادر في قطاعي التعليم العام والخاص، وبعض أولئك كانوا خريجي مدارس «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين».
كان العلم ملاذاً شبه آمن لكل من شُرد خارج وطنه، ولكن تلك النخب ذابت وهُمشت دون أن تترك تأثيراً للتفكير العلمي في مسيرة السياسة والمجتمع الفلسطيني، هُمشت أو اغتيلت، إما من خلال تصفية جسدية من قبل عدوها الإسرائيلي في كثير من المواقع والأماكن، وإما من خلال العمل السياسي الداخلي، الذي همش القادرين على التفكير العلمي والعقلاني لصالح «الأقرباء أو المسايرين أو الرفاق»، أو لصالح آيديولوجيات شبه خرافية، كل ما يملكونه من قدرات هو «الولاء» لهذه القيادة أو تلك. وقد أبدعوا في تزيين الخلاف البيني والصراع الداخلي حتى كسر العظم.
كان المأمول أن يخلق كل ذلك الزخم العلمي شيئاً من «مجتمع المعرفة الفلسطينية»، يقود نضال الشعب، إلا أن ما نتج هو إبعاد من جهة، وعدم احتياط أو فهم لأهداف عدوهم واعتماد المنهج العلمي في الصراع، إلى درجة أن أحد أهم الأهداف الإسرائيلية عند اجتياح بيروت 1982 كان نقل ومصادرة كل موجودات وملفات مركز الدراسات الفلسطينية، بما فيه كل الجهد العلمي المنظم الذي تم حتى ذلك الوقت. إنه شيء من نزع الذاكرة الذي تراه الخطط العلمية وتعمى عنه «خطط العنتريات»!
الأعجب في الأمر أن التفكير العلمي الصحيح يقود إلى الرأي بأن «العدو الذي يواجه الفلسطينيين» هو عدو يعتمد العلم والتخطيط العلمي، إلى حد كبير في اتخاذ قراراته الاستراتيجية، وفي تحريك أذرعه الدبلوماسية والعلمية، كما يعتمد على المأسسة. ولو التقط مؤخراً أحد من تلك القيادات الفلسطينية فقط مجلة «نيوزويك» التي صدرت قبل أسبوع من مقتل البطش، لوجد فيها دراسة موسعة تصف «العلاقة بين العلم في المتابعة والتقصي، وبين العاطفة والتلقائية في اتخاذ القرار» واضحة وضوح الشمس لمن يريد أن يعرف! ففي الحملة التي قادها الموساد ضد بناء الصواريخ المصرية في مطلع ستينات القرن الماضي، نهاية الأمر العلم هو الذي انتصر. الأحداث التي ترويها تلك الدراسة هي أحداث ما عرف بـ«إنتاج الصواريخ المصرية» في بداية الستينات من القرن الماضي، تقول الدراسة إن الإسرائيليين لم يكونوا يعرفون بوجود تلك الصواريخ، حتى تم استعراضها في شوارع القاهرة (ربما للمباهاة)! وإنها صواريخ - كما نشر عنها - طويلة المدى (يمكن أن تصل إلى شمال بيروت)! وقتها التفتت الأجهزة الإسرائيلية لهذه الموضوع (الخطير)، وبدأت بخطة لإفشاله عن طريق معرفة مَن وراء المشروع، وكيف يمكن الوصول إليهم من أجل تعويق المشروع أولاً ثم القضاء على منفذيه! القصة المنشورة في «نيوزويك» مثيرة للخيال، كما هي مثيرة للجدل، كيف قررت تلك الأجهزة أن تخترق نظام «حقيبة البريد» التي كانت ترسل من أوروبا إلى القاهرة، ومعرفة من هم خلف أبحاث الصواريخ (وقد كانوا مجموعة من العلماء الألمان) وبناء مخطط لخلق رأي عام داخلي وعالمي لإظهار هؤلاء الألمان بأنهم (نازيون يرغبون في حرق الشعب الإسرائيلي)! من أجل التحشيد الداخلي، وخطوات منظمة مدروسة لإرهابهم، وقتل بعضهم إن أمكن، في أماكنهم في أوروبا أو في مصر! القصة بتفاصيلها كانت هناك معروضة للاطلاع في المجلة، كما أن الكتب والدراسات الخاصة بتاريخ الاغتيال متاحة للجميع، وقبلها قصص أخرى، وليس بعيداً عنها كيف خُطط لمهاجمة مطار عنتيبي عام 1976 في أوغندا (الذي تحولت قصته إلى فيلم سينمائي يشاهده الملايين) من أجل إنقاذ المختطفين من الطائرة الفرنسية!
لقد تم اغتيال عدد كبير من النخب العلمية الفلسطينية في عدد من المواقع، من أجل تعطيل مسيرة المواجهة العلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وترك المواجهة لأدوات عاطفية تلقائية وعشوائية وكلام مرسل، دون استخدام منهج علمي يعتمد على النظر الجاد للقضية وتطوير أدواتها المقاوِمة. ومع كل تلك الفواجع والمواجع، لم ينتبه - أو لا يريد أن ينتبه - كثيرون من القيادات الفلسطينية إلى هذا المسار العلمي، الذي لا مسار غيره، وهو الذي يقول إن أي ناشط فلسطيني في أقصى الأرض له علاقة بالعلم والتقدم العلمي، سوف يكون هدفاً مباشراً للتصفية، ذلك للشخوص العلمية البارزة، أما التصفية السياسية في الداخل فهي متروكة للنزاع العبثي (وبالتأكيد غير العلمي) بين الفرق والفصائل والجماعات المتنازعة على الأرض الفلسطينية ذاتها، التي تقوم بردود فعل عشوائية، من جرائها تذهب أرواح الفلسطينيين هباء، كما تساعد على التصفية ردود الفعل العشوائية التي تواجه ماكينة تعتمد على العلم والتنظيم الحديث والمأسسة.
يجد العربي نفسه في مكان محرج أمام هذا التردد الخجول من القوى الفلسطينية لاستخدام المنهج العملي والعقلاني لمعالجة قضيتهم، وكل فريق بما لديهم فرحون، في الوقت الذي تنزف القضية دماً وألماً لتدخل قرنها الثاني!
آخر الكلام:
على الرغم من كل ما عاناه الشعب الفلسطيني، فإن الانشقاق والفرقة في صفوفه، من غير تفسير عقلاني، هي آفة تأكل من رأسماله النضالي، وتبطئ من مسيرته نحو الحقوق الكاملة!
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع