بقلم : د.محمد الرميحى
قضيت ردحاً من الزمن أشاهد منظراً يستفز الإنسان السوي، حيث السفير اللبناني في الكويت يسير في ركاب السفير السوري، أينما ذهب الأخير أو حل، كان ذلك في معظم سنوات الربع الأخير من القرن العشرين، وكان الأول كثيراً ما يوافق علناً في ديوانيات الكويت على ما يقوله الثاني في الشؤون العامة، دون اختلاف ولو بسيط.. كان المنظر مؤلماً حقاً. وإذا أخذنا ذلك المثال وتصورنا تطبيقه في المستقبل، فليس من الغريب أن يصحب السفير الإيراني كُلاً من سفراء لبنان وسوريا والعراق خلفه في بعض عواصم العالم، ليؤمّنوا جميعهم على رأي السيد السفير المفوه، في كل شاردة وواردة، هذا إذا تحققت حيازة «حزب الله» اللبناني على مقاعد وازنة في الانتخابات القادمة، (فيلحق لبنان) بحكم الفقيه، ومن جهة أخرى إذا انتصر النظام السوري في حربه ضد شعبه (وهذا افتراض)، (فسوف يلتحق السفير السوري بركب الاثنين)، وإذا حصل انتصار للقوى الإيرانية في العراق (وهذا احتمال ممكن في الانتخابات القادمة) وحصل مؤيدوها على ثقل وازن، وقتها سوف يلحق السفير العراقي بالركب! كل ذلك السيناريو هو أحد الاحتمالات الممكنة، ولكنها بالتأكيد ليست المؤكدة ولا الدائمة، إلا أن مؤشراتها للتحوط لا بد أن تقرأ، فاليوم علناً يعلن «حزب الله» أنه تابع دون قيود إلى الولي الفقيه، كما أن الحشد الشعبي العراقي الموالي لطهران، يمول مباشرة (كما قررت الميزانية التي اعتمدت في بغداد مؤخراً) من الدولة العراقية الرسمية، ويأتمر بأوامر (مندوب الولي الفقيه)، أما الصورة التي نشرت للسيد حسن نصر الله (بالملابس الإفرنجية) مع قاسم سليماني في دمشق مؤخراً، فهي أعظم كثيراً من ألف مقالة تشير إلى ذلك التعاضد والتبعية! أما الخبر الذي جاء من تركيا بأن (ثلاثة من العراقيين) ربما كانوا تابعين لأجهزة طهران، حاولوا تفجير السفارة الأميركية في أنقرة! ذلك حجر آخر يضاف إلى كومة الأحجار التي تنبئ إلى أين وصلت طهران في تجنيد العرب، واللعب على كل الحبال، حتى حبل الوفاق التركي – الإيراني، الهش.
الافتراض الأساسي في طهران أنهم قادرون على تجنيد بعض العرب لتحقيق أجندة طهران في أوطانهم العربية وفي أماكن أخرى، ويجري التجنيد تحت كثير من الأوهام، منها (نصرة المستضعفين) وغيرها من الشعارات! هذا الافتراض على النخبة الإيرانية الممسكة بالقرار في طهران، أن تعيد النظر فيه ويتم تمحصيه؛ لأنه في الواقع المعيش هو (قراءة خاطئة للمشاعر الوطنية العامة) سواء اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية، وأي مشاعر عربية، فهي - أي الأخيرة - في الغالب الأعم متمسكة بوطنيتها، كما تمسك اللبنانيون (في حالة المثال السابق) بلبنانيتهم، بعضهم سار في ركاب سوريا خوفاً أو استضعافاً، ولكن المشاعر الدفينة (الوطنية اللبنانية) سرعان ما ظهرت في شكل جحافل من الناس، تنادي بالتخلص من السيطرة السورية، وعلم العالم كيف أن سوريا (الأسد) أخرجت قواتها وقتها بليل من لبنان!
إذا استمرت طهران في القراءة الخاطئة للمشاعر الوطنية العربية، فهي كالنعامة لا تريد أن ترى الصياد! فتدفن رأسها في الرمال. الدولة الوطنية العربية وجدت لتبقى، وهذا المال الإيراني الذي يبعثر اليوم على منصات إعلامية ودبلوماسية وتعبوية، هو مال أحق به الشعوب الإيرانية؛ لأنه يبعثر فيما لا طائلة منه، المسيرات المؤجرة في لندن، والأبواق المعدة في بيروت، والحشود العسكرية في سوريا، وكثرة (الخبراء) في العراق، كل ذلك في المنظور التاريخي مؤقت، هو بالضرورة كذلك!
فهم طهران الخاطئ حتى في العلاقات الدولية واضح للعيان، فإفشال مهمة وزير الخارجية الفرنسي، الذي توجه لطهران بقرار شبه أوروبي ومباركة أميركية، بطلب واضح، أن تتوقف عن إنتاج السلاح الباليستي وتوزيعه في الجوار، كما تكف يدها عن العبث في الجوار العربي، ذاك الرفض يعزز تلك القراءات الخاطئة. ويذكرنا هذا الاجتماع بين وزير الخارجية الفرنسي، ووزير الخارجية الإيراني (مع اختلاف في الشكل) باجتماع عقد تقريباً قبل ثلاثة عقود، بين وزير خارجية صدام حسين طارق عزيز، ووزير خارجية الولايات المتحدة جيمس بيكر، في 9 يناير (كانون الثاني) 1991 في جنيف، عندما رفض الأول فهم الرسالة المقدمة إليه، ويعود التاريخ من جديد ليرتب مجموعة تداعيات على الفهم الخطأ والقراءة المبتسرة للموقف الغربي من قبل الإدارة الإيرانية.
قد يسوء الوضع قبل أن ينفرج في العلاقات الشائكة بين رغبة النظام الإيراني في التمدد والهيمنة، وبين الرغبة الطبيعية في التحرر لدى الشعوب العربية، الأخيرة لا يمكن إطفاؤها بالمال والشعارات، ولا يمكن حتى اعتبار الاستزلام من البعض، هو رأي غالبية المواطنين. التاريخ خير دليل على أن هناك جزءاً من الشعب قد يخضع إلى المهيمن الغازي، ولكن ليس كل الشعب، وليس كل الوقت. تعاون بعض الفرنسيين مع أدولف هتلر؛ بل وشكلوا حكومة موالية له، إلا أن جذوة المقاومة في فرنسا تنامت حتى طردت جحافل هتلر ومن ناصرهم من الفرنسيين من الأرض الفرنسية. وهكذا في التاريخ يخضع البعض لأسباب مختلفة لبعض الوقت، لهيمنة دولة أخرى، ولكن ليس الكل، وليس بشكل دائم، في النهاية من يتبع هوى وسياسة تلك الدولة يصبح (خائناً) في نظر أهله، ويلفظه التاريخ.
المشهد السياسي العربي ملتبس اليوم، ذاك ما يشجع النظام الإيراني على التوغل في المشهد العربي، إلا أن المشهد العالمي واضح، فليس من المقبول في القرن الحادي والعشرين إقامة حكومات (عقائدية - تبشيرية)، هذا الزمان لا يحتمل ذلك، إنه ضد التاريخ، ومفارقة للمصالح التي استقر عليها التقدم الإنساني، فتلك الحكومات العقائدية - التبشيرية، لا توفر المسكن والعمل ولا الحريات، وهي المطالب الإنسانية العامة في زماننا!
على مقلب آخر، فإن الافتراض الذي يجب التوقف عنده، هو التهديد العلني من قبل النظام الإيراني للعالم: «إن غيرتم صيغة الاتفاق (النووي) الذي توصلت إليه إيران مع الدول الخمس، فسوف نعود إلى إنتاج سلاح نووي!».. هذا التهديد المعلن أو المبطن لا يساوي ثمنه على أرض الواقع، حتى لو حصلت إيران على ذلك السلاح، فهي سوف تستخدمه ضد من؟ أرى أنه في وقت ما ليس ببعيد، سيقول الرأي العام الدولي لإيران: «سوف ننسحب من الاتفاق، ونفذوا تهديدكم!»، لنرى إلى أين سوف تصلون!
الورقة الأوروبية التي رُفضت من طهران، كما حدث في الأسبوع الماضي، تزيد من ضبابية القراءة الإيرانية للمشهدين الدولي والعربي. في نهاية المطاف تستطيع إيران أن تفرح بأزلامها اليوم، إلا أن هذا الفرح مؤقت، كما شهد التاريخ مراراً، هو كفرح أدولف هتلر باجتياح أوروبا لا أكثر. في المدى القصير، سوف تتدهور العلاقة مع طهران، في المدى المتوسط سوف تكتشف طهران أن مسارها معاكس للتاريخ ولمصالح الشعوب وفخرهم الوطني، وقتها لن تعرف من تحارب وفي أي مكان.
آخر الكلام:
الدم العراقي والسوري واليمني المسفوك بقرار من طهران وحلفاء لها، هي دماء عربية عزيزة، وقد تعصف لعنة الدم تلك ببقاء هذا النظام، الذي يراه العالم - مهما تجمل - أنه نظام يساند الإرهاب بأشكاله المختلفة.
عن الشرق الاوسط اللندنيه