أصبح التكسب من الاجتهادات الفقهية صناعة لكثيرين وقوتهم اليومي، بل سلاحاً لقهر الأخيرين. فهؤلاء (المفسرون وأصحاب الفتوى) يقدمون بضاعتهم على أنهم القادرون على التفسير الصحيح للآخرين، وبخاصة الجمهور العام، وعلى الجميع أن يحيا أو يموت من خلال ذلك التفسير المنغلق على نفسه، وكل ما يفكر به أو يقوله معارضوهم هو خطأ فاحش يجب شجبه، وحتى تكفيره! الفكرة الأساس أن من يعتقد أن ما عُرف بالصحوة والإسلام الحركي أو أشباههما قد انتهى أو تضاءل، عليه أن يفكر من جديد، فلا يزال شبح تلك الحركات الذي يأخذ أشكالاً مختلفة حولنا موجوداً وحيوياً وفاعلاً أيضاً، يقوم على استجلاب نصوص كُتبت لأزمان أخرى ومجتمعات مختلفة، متجاهلاً ما وصلت إليه البشرية من علم وتقدم.
وعلى الرغم من الفشل الذي صاحب تجارب سياسية ذات فترات زمنية طويلة أو قصيرة للحكم من خلال الإسلام الحركي القائم على تسليع الفقه كما يفهمونه، إلا أن جيوب ذلك التيار وأتباعه لا تزال فاعلة وتسيطر على مساحة واسعة من الرأى العام، من خلال تقديم تفسيرات تناسبها وتلبس في الغالب لبوساً سياسياً. كل ذلك باسم الدين كما تراه تلك المجموعات والنصوص كما تفسرها أو تفهمها. لقد أصبح ذلك التيار معوقاً للتقدم الحضاري ومشوهاً للدين الإسلامي في الوقت نفسه.
ذلك التيار له مظاهر متعددة من القتامة إلى الأقل قتامة، فهو يعتاش على الخرافة والأسطورة وتغييب العقل. والمؤسف أن هناك عقولاً لا تزال تقتنع بما يطرح.
المعضلة التي تواجهها المجتمعات الإسلامية بعامة والعربية على وجه الخصوص، أنه ليس هناك تفسير حضاري للأهداف الإنسانية للدعوة المحمدية، ولا قاعدة للفهم الصحي (غير القائم على التسييس والجهل والأساطير) لمقاصد الإسلام، فيذهب البعض إلى التعامل الأمني أو التعامل المجامل، وفي معظم الأحيان تتجاهل الدولة المخاطر، بل إن بعض الدول توظف تلك المجاميع والأفكار من أجل بقائها واستمرار سطوتها، أو الاستفادة منها من أجل التشويش على آخرين نكاية بهم ومزايدة.
الأكثر قتامة في المشهد الذي يعايشنا اليوم هو ما نشاهده من تطبيق ينسب إلى الإسلام في بلد مثل أفغانستان، والذي تنقل لنا الأخبار كل يوم تفسيراً ليس متشدداً فقط، بل خارجاً حتى عن سياق العقل السليم، كمثل منع النساء من التعليم حتى لو كان ذلك التعليم تديره نساء، أو منع النساء من العمل حتى في المهن التي تستلتزم أن يكون القائمون عليها من النساء، ذلك تفسير للدين خارج عن الطبيعة الإنسانية. ويأخذنا ذلك التصرف من التعليم إلى بقية مناشط الحياة الأخرى في ذلك البلد المنكوب، ويؤدي بالضرورة إلى مجتمع مقفل على نفسه ومضيّق على أهله ومعاد للحضارة الإنسانية، ويتضاعف مستوى الجهل فيه.
وعلى الرغم من الاعتراض من دول ومجتمعات إسلامية وازنة على ذلك التصرف غير العقلاني، إلا أن آذان القابضين على السلطة في كابول صماء، فهي لا تسمع ولا تريد أن تفهم.
0 of 23 secondsVolume 0%
ذلك الشكل من الممارسة، يقدم للعالم أجمع على أنه إسلام، وهو في حقيقته أقرب إلى التقاليد في مجتمعات مغلقة، منه إلى روح الإسلام وتعاليمه ومقاصده.
في المقابل، يجري قتل المحتجين في شوارع المدن الإيرانية وتعليق بعضهم على المشانق تحت تفسير فكرة تراثية (المفسدون في الأرض)، وهو تعبير تراثي يُستخدم من أجل تعميق سلطة كهنوتية مفارقة للعصر وتثبيتها، وتعتقد أنها تتكلم باسم الخالق، وتتحكم برقاب ملايين من البشر ضاقوا ذرعاً بهذا النوع من التفسير التراثي المغيب لحرية الإنسان ومصالحه، ومع استمرار تجاهل العصر، ستأخذ إيران ذات التراث الحضاري، إلى مكان معزول ومظلم كمكان كوريا الشمالية اليوم، مفعولاً بها وليست فاعلة.
على مقلب آخر، نرى أن هناك من يطالب بفصل التعليم بين البنين والبنات على مقاعد الدراسة في بلد مثل الكويت، أو محاربة كل مظاهر الفرح على أنها خارجة عن الدين، وهذا تغوّل في صلبه تنفير لا ترغيب وتجاهل لتراث شعبي متسامح، بجانب أنه يبقي المجتمع في المراوحة في المكان. بل اللافت أن مجتمعاً مثل المجتمع الكويتي تثور في جزء منه مناقشات إبان المواسم، وبخاصة في أعياد المسيحيين، هل يجوز أن نهنئ المسيحيين بأعيادهم أم أن ذلك حرام؟ في فهم ضيق جداً لتراث إسلامي وحتى محلي متسامح.
إن وسّعنا العدسة في هذا الموضوع فإنها تلتقط القبح الذي تسببه مثل تلك التيارات، ففي جنوب الجزيرة في اليمن ابتُلي المجتمع بمحاولة إحياء مشروع "الهاشمية السياسية" والتي تسمى شعبياً بالحوثية، وهي تريد أن تمحو سبعين عاماً من التقدم اليمني النسبي بعدما أطيح الحكم الكهنوتي الهاشمي الذي كان قائماً على فكرة الإمامة وآل حميد الدين، فأصبح اليمن حبيس دائرة مغلقة من العنف والتخلف.
وإذا اتسعت العدسة أكثر فإن هناك صراعاً مسلحاً يذبح فيه أبرياء في القارة السوداء التي تنتشر فيها جماعات تسمي نفسها "جهادية"! من بوركينا فاسو ونيجيريا والكاميرون ومالي وفي الساحل الصومالي وحتى موزمبيق، وهي إما داعشية أو قاعدية، وبعضها أصبح له عقود يعيث فساداً في تلك المناطق ويقتل الآمنين، كل ذلك باسم الإسلام وهو من هذه الجماعات المتطرفة براء، إلا أن فتوى التشدد هي القاعدة التي يستند إليها كل ذلك التطرف والأوفق أن يسمى "الإجرام بالجهاد"! كما تفرخ تلك الفتوى العديد من المتطرفين في معسكرات اللجوء المنتشرة في الشرق الأوسط، وتخرّج أجيالاً جديدة جاهلة ومضللة.
أمام هذه الصورة المتدرجة القتامة التي تختلط فيها إكراهيات الفتوى وقبح الأعمال معجونة بجهل برسالة الإسلام الحضارية، فإننا أمام تسليع الفتوى وبدرجة عالية من الخطورة، والجهود المقابلة إما ضعيفة أو غير فعالة، وجميعها تفتقد الاستراتيجية الواضحة لمكافحة هذه الآفة التي تستولي أولاً على عقول الناس من ثم تتحكم في سلوكهم ثم مصائرهم.