توقيت القاهرة المحلي 09:40:53 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم

  مصر اليوم -

قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم

بقلم : د.محمد الرميحى

لمن لا يعرف (من خارج الكويت)، كاتب المذكرات هو وزير تربية ومالية سابق، أستاذ اقتصاد، وعميد أكثر من كلية، ومستشار اقتصادي للأمير الراحل صباح الأحمد، وناشط سياسي، والمذكرات بعنوان "سيرة في بناء وطن: آمال وتطلعات، 2024".

يقال إن أفضل ما يكتبه الكاتب لم يُكتب بعد، والقول مجازي، أن الكتابة، بخاصة في مجتمع صغير كالكويت، لها محددات كثيرة، سياسية واجتماعية، لذلك فمن الشجاعة أن يكتب شخص تقلد كل تلك المناصب الحساسة، سيرة عملية بمعظم تفاصيلها، ولكن المؤلف أقدم على ذلك، ولو في بعض الموضوعات بالإشارة التي يفهمها القارئ الذكي.

كتابة المذكرات فن جديد على مجتمعات الخليج، وفي الكويت كتب كل من عبد الله بشارة ومحمد أبو الحسن مذكرات، إما عامة أو متخصصة لفترة من الزمن الوظيفي، وهي بحسب علمي من النوادر، إذ إن الجيل الذي سبق، رغم ثراء تجربته، تردد في كتابة ما مر به، وهو ليس قليلاً، كمثل المرحومين عبد العزيز حسين وعبد الرحمن العتيقي. يوسف الإبراهيم هو من الجيل الثالث (بعد بشارة وأبو الحسن).

قراءتي للمذكرات ليست من أجل عرض كل ما جاء فيها، بل هي قراءة سوسيولوجية، إن صح التعبير، لمجمل الكتاب والإضاءة على بعض زوايا الموضوعات التي ليست لها علاقة بالماضي فحسب، ولكن بالحاضر والمستقبل. أوجزها في محاور عدة:

أولاً: الكتاب يشير إلى المشكلات التي يواجهها مجتمع صغير محافظ جراء التسريع في ولوج الحداثة، والتحول من مجتمع منتج نسبياً، إلى مجتمع استهلاكي كلياً، وضغط "الوحدة الزمنية" السريعة الناتجة من هذا التسريع في التحديث، والأزمات التي مر بها المجتمع نتيجة عدم التناغم بين ما يتطلبه التحديث، سياسياً واجتماعياً، وبين ما يرغب المجتمع المحافظ في البقاء فيه، هنا تحدث فجوة في منظومة القيم الحاكمة، من قيم حديثة (تحرير المرأة مثلاً) وقيم تراثية (الخوف المرضي على التراث)، لذلك دراسة هذا التحول الضخم تحتاج إلى منهجية منفتحة ومرنة.

ثانياً: تتعرض المذكرات إلى فترة نشأة الكاتب في أسرة ممتدة، مترابطة، في الوقت الذي قررت الدولة إنشاء مدارس، وتثمين الدولة للمنازل القديمة، وخروج جماعات من داخل السور إلى خارجة في أحياء حديثة، ذات خدمات متكاملة، وهي الفترة الانتقالية التي صاحبت صبا الكاتب الذي يقول شاءت الأقدار أن يكون مولدي قبل عامين من هدم آخر سور للكويت القديمة عام 1957، وبدلاً من المنازل المتلاصقة القديمة، أصبحت المنازل فيلات حديثة تعيش فيها أسر مستقلة، مع انقلاب في مصادر الرزق (في حال الكاتب) من تربية وتجارة الخيول، إلى التجارة الحديثة، هنا يرسم الكتاب صورة نوستالجية للطفولة والشاب لجيله.

ثالثاً: في العقود الثلاثة من الخمسينات إلى السبعينات من القرن الماضي، مرت الكويت بمرحلة يسميها عبد الله بشارة "العروبة السياسية" وتجد لها صدى في مذكرات الكاتب، إذ يتحدث في مكان تحت عنوان "أنا والناصرية والتحول الفكري" عن كيف أثرت أحداث الخامس من حزيران (يونيو) 1967 وهو يافع في وعيه. في آخر يوم من امتحانات المرحلة المتوسطة، يومها، كما يصف، تم الإعلان عن بدء الحرب مع إسرائيل، "وكان المدرسون ينقلون لنا نتائج النصر الزائف، فيقول لنا مدرس: اطمئنوا سوف نلقن اليهود طعم الخسارة .. ونحن الأشبال في مقاعدنا نصرخ ونهلل: تحيا فلسطين"، اكتشاف الخسارة والتضليل اللذين صاحبا الحرب ونتاجها الكارثية، هما "بداية الجرح" كما يصف، إلا أن الطالب المشبع بالأفكار في ذلك الزمن، ما إن أعلن موت عبد الناصر 29 أيلول (سبتمبر) 1970 حتى أعلن الإضراب عن الطعام، واستمر ثلاثة أيام "حتى بدأت أفقد قواي"، كان ذلك عمق الحسرة. ذلك التضليل أعيد في المشهد العربي أكثر من مرة، وهو اليوم يشاهد في غزة.

رابعاً: بعد عدد من الصفحات، أخذت الكتاب إلى التعليم العالي والمشاركة في الحياة العامة، نصل إلى وسط الثمانينات، وقتها تم تعطيل الدستور والتأمت جماعة تعرف في تاريخ الكويت بمجموعة الـ"54"، وهي مجموعة من النشطاء مساندة لأعضاء البرلمان المنحل للمطالبة بعودة الدستور، وكان كاتب المذكرات من المجموعة. طبعاً حصل انشقاق في الصف الكويتي الوطني، وبدأت تلك الجماعة تنظم اجتماعات لإظهار وجهة نظرها. هنا يصف الكاتب أنه بعد أحد الاجتماعات الجماهيرية "وأنا ذاهب إلى موقف سيارتي، وقفت سيارة بجانبي وفتحت نافذتها، وقال راكبها: يعطيكم العافية. من لهجته عرفت أنه عراقي وتبين أنه السفير العراقي وقتها، ورفضت التجاوب معه حول أعمال المجموعة". هذا الدرس البليغ الذي يقدمه الكاتب، ما زال فاعلاً، ففي المجتمعات الصغيرة إن لم تسوَّ الأمور في الوقت المناسب بين الفرقاء وبالحسني، يفتح الباب مشرعاً للتدخل الخارجي، وكثير من المتابعين، يرى أن أحد أسباب الغزو العراقي للكويت عام 1990 هو الفرقة والتناحر الحاد بعد تعليق الدستور وسط الثمانينات، ما أدى إلى خواء الساحة المحلية.

خامساً: ينتقل الكاتب إلى محور سماه "ظنوا أن الكويت لن تعود" وهي السرقات الكبرى التي حدثت في المال العام، وشُكلت لها لجان تقص بعد التحرير، وكان الكاتب هو الخبير الاقتصادي الذي واكب تلك اللجان، وهنا يصف بعين المتابع اللصيق تلك السرقات الكبرى التي كانت بالبلايين وبكل تفاصليها المحزنة.

سادساً: في فصل معنون "أغسطس الأسود والبقاء في حضن الوطن" يصف كيف استمر صامداً في الكويت، وطبيعة العمل تحت الاحتلال، وزيارة الأسرى في العراق، كما يشير إلى ملف لافت وفيه أن إحدى المحطات التلفزيونية الغربية بعد انتهاء الاحتلال مباشرة وصلت إلى منزله لإجراء مقابلة، وأصر المذيع على أن يوجه الأسئلة بالطريقة التي تنتقد فيها جيران الكويت وأنظمتها، فرفض أن تتم المقابلة، وهذا يوصلنا إلى أنه لا يوجد إعلام مجاني، بل كل له أجندة خاصة به.

سابعاً: العمل الوزاري، وله فصل خاص، كونه كان وزيراً للتعليم، ومن ثم المالية، إذ يرى أن هناك مجموعة من المعوقات في العمل العام، منها كما يشير أن العمر الافتراضي للوزير في العمل هو 1460 يوماً يقضي منها فقط 204 أيام في مكتبه، والباقي مقابلات وسفر واجتماعات لجان. كما يشير إلى أن الآراء الفنية والتقنية التي تقدم لمتخذ القرار لا يؤخذ بها لأسباب مختلفة، منها الضغوط السياسية والاجتماعية، والفجوة المعرفية، وبالتالي نشهد "المراوحة في المكان" والبيروقراطية الثقيلة المعطلة للتنمية، ومنها الاستخدام السلبي لقواعد اللعبة الديموقراطية حيث تنتصر المصالح الخاصة على تحقيق الخير العام.

خلاصة الموضوع أن ما تقدم هو فقط إشارات سريعة إلى ما حملته تلك "السيرة في بناء الوطن" والتي من المفروض أن لا تغيب قراءة الكتاب عن كل مهتم بالتطور الحداثي للكويت، إن كان ما زال أحد له الرغبة في قراءة الكتب. فمقال، حتى ولو طال، لا يفي حق هذا الكتاب الفاتح للعقول قبل العيون!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم قراءة في مذكّرات يوسف حمد الإبراهيم



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon