توقيت القاهرة المحلي 09:40:53 آخر تحديث
  مصر اليوم -

درنة ومخلفات الأخ القائد!

  مصر اليوم -

درنة ومخلفات الأخ القائد

بقلم : د.محمد الرميحى

هذا الحديث ليس عن الماضي، بل هو عن المستقبل. درنة، المدينة الليبية، اجتاحها إعصار «دانيال» الرهيب وأخذ آلاف الأرواح ودفنها تحت الأنقاض، وما زال البحر يلفظ الجثث، فقد أصاب المدينة بدمار هائل، إلا أن «دانيال» الرهيب مر بمدن أخرى، ولم يترك كل ذلك التدمير. جزئياً سبب التدمير الهائل هي البنية المتهالكة التي تركها «حكم الأخ العقيد» لمدة أربعة عقود، وتبعها عقدان من حروب التنافس الأنانيّ البشع.

لقد صرف الأخ العقيد مليارات الدولارات التي كانت تأتي من إنتاج النفط الليبي على حروب خارجية ومغامرات في الجوار وشراء الموالين وقمع الحريات، فترك بلداناً ليبية كثيرة ببنية تحتية متهالكة، زادتها حروب الأهل بعد ذلك دماراً.

وثّق الجو الليبي السياسي والاجتماعي الكئيب، عدداً من الأعمال الأدبية الليبية المتميزة، التي لم يكن بالإمكان أن تخرج إلى النور لولا ترك أصحابها التراب الليبي أو بعد اختفاء «حكم العقيد».

في الذهن عملان أدبيان لشخصيتين ليبيتين شرحا ذلك الوضع القمعي في المجتمع الليبي وقت «الأخ العقيد»، أولهما رواية «خبز على مائدة الخال ميلاد» لمحمد النعاس، وهي رواية تشرح ملحمة الصراع لبعض المهمشين في المجتمع الليبي مع الدولة «اللادولة»، وكيف تضرروا حتى «في المخبز المتواضع» من شعار طفوليّ «شركاء لا أجراء» الذي استطاب بعض المروجين أن يقنعوا به الأخ العقيد، فحتى المخبز وجب تأميمه.

أما الرواية الثانية فهي للروائية نجوى بن شتوان، الليبية من أصول يونانية، في المجتمع الليبي متعدد الإثنيات، واسم الرواية «كونشرتو قورينا إدواردو». وصلت إلى القائمة القصيرة في الجائزة العربية للرواية العربية أبوظبي. و«كونشرتو» هو صنف من التأليف الموسيقي تقوم آلة واحدة «أو أكثر» بالدور الرئيسي للمعزوفة فيه، وبقية الفرقة كلها تعمل «سنّيدة» أي ملتحقة بتلك الآلة، أما إدواردو فهو اسم عَلم مذكر، أما «قورينا» فهي مدينة ليبية في الشرق تُعرف اليوم باسم «شحات». وباختيارها ذاك العنوان للرواية، تترك انطباعاً مباشراً للبعد السياسي في الرواية.

المؤلفة ضاقت بها بلدها فأصبحت لاجئة في إيطاليا، وقد فازت كامل أعمالها مؤخراً بجائزة أدبية إيطالية مرموقة. أما الإسقاط السياسي للرواية فهو توصيف «الحال المتردي للمجتمع الليبي» تحت «قيادة قائد الثورة وزعيم الجماهيرية وملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين»! في فترة سابقة وفي أثناء الثورة «الثقافية الليبية» قُدمت المؤلفة للتحقيق بتهمة ملفَّقة هي «ازدراء قيم الجماهيرية»! فقط لأنها تكتب خارج «الجوقة».

الخسف الذي أصاب مدينة درنه الساحلية، وقد كانت فيما قبل «الزعيم القائد» أيقونة الثقافة الليبية، جلبت تلك الذكريات التي يتحول فيها «شخص» مع «مجموعة صغيرة من العازفين على منواله» إلى تدمير بلد كامل، وعلى رأس ذلك التدمير، التدمير الثقافي. يتحول المجتمع فيه إلى قسمين أقلية «مخبرين» وأكثرية «مُخبر عنهم» تملأ الخوف في القلوب، وتبدد الثروة باسم الثورة، تلك المرحلة السوداء في ليبيا حجبت كل أو معظم الإبداع الليبي، وعطلت التفكير الحر، واختصرت البلد في شخص «القائد الملهم» الذي يقبّل يده «حتى رئيس وزراء إيطاليا الأسبق» سيلفيو برلسكوني، صاحب التاريخ «الصاخب» مع «الأخ القائد».

ذلك العمر المسروق من الليبيين، أي أربعون عاماً من التجارب الآيديولوجية الفاشلة، وخراب المؤسسات وتراجع العدل، والاستهتار بحقوق الناس... شلَّت المجتمع الليبي، وشتَّتت نخبته، وتوارى أهل الرأي، إما في الشتات في المنافي، وإما في القبور غير المعروف أصحابها، وهكذا تفعل القيادات فاقدة المشروع الوطني الحضاري.

وعندما انتهى ذاك الرعب الأسود، خلف الفوضى العارمة، تقاتل بعض من كان مع الأخ القائد، مع من كان ضده في العلن أو السر على التركة المهشمة، نتج من ذلك الصراع ليس «ملكاً واحداً» بل عدداً من الملوك يصعب عدّهم، استدعى بعضهم قوى من الشمال والغرب والشرق، من أجل إعانتهم على الاستحواذ على تركة «الأخ القائد»، وفرَّخت ليبيا ثلاثة رؤوس لحكومات متنازعة! وترك الشعب يلعق العلقم وببنية تحتية متهالكة!

ما حدث لأهل درنة في المستوى والعمق هو نتيجة لهذا «المرض الليبي»، مرض الديكتاتورية والجهل السياسي معاً، وكل ما يقال عن احتمال «خروج ليبيا» من المأزق، هو في المنظور القريب، شيء من المحال. فبمجرد أن تتراجع الصدمة الأولى من «دانيال» الرهيب، ويُدفَن الموتى، فإن الفرقاء المتناحرين سوف يعودون من جديد، بين مشروع عسكري وحتى مشاريع عسكرية، وبين ساسة مدنيين شرهين، وقوى ظلامية من الإسلام الحركيّ، ولن يستطيع المبدع الليبي تحت ذلك الثلاثي الشره للسلطة والثروة أن يتنفس إلا في الخارج، كما يفعل كثيرون اليوم.

بيت القصيد، أن الشمولية الأحادية مهما رفعت من شعارات فهي شعارات مضللة بل كاذبة، وقد تجد لها مروجين انتهازيين، يقفزون من السفينة أول ما تهزّها الأمواج، ويلتحقون بالقائد الجديد، أما الوطن فهو آخر همّهم.

سوف تظل هذه الشعوب المغلوبة على أمرها نهب التطرف الآيديولوجي؛ إما «قائد ملهَم لا عقل له، وصاحب شعارات زاعقة» وإما «مجموعات مسلحة ميليشياوية». الدرس الأهم الذي نخرج به من روايتَي نجوى شتوان، ومحمد النعاس، إضافةً إلى ما دمَّره «دانيال» الرهيب، أنه من دون الحرية للناس لا تستطيع الشعوب أن تتقدم، حيث لا يسمح لها نقد واقعها، وسوف تبقى نهب التضليل أو مكاناً للتدمير أمام أشكال «دانيال الرهيب» أو «الرئيس الأوحد»!

ويكفي ما نشاهد حولنا في العراق ولبنان وسوريا واليمن، حتى نعرف أن «الشعارات» وإن اتخذت أشكالاً مختلفة فهي قادرة على تدمير الشعوب والقضاء على مستقبلها لأنها ببساطة تغيّب واقعها.

آخر الكلام: الحرية تحتاج إلى قواعد قانونية توفر لها الحماية في مجتمع مدني وحديث.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

درنة ومخلفات الأخ القائد درنة ومخلفات الأخ القائد



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon