قبل سنوات لو سئل أحد المهتمين بالوضع الاستراتيجي في الخليج ما هي المخاطر التي تحيط بالخليج، لربما قال إنها مخاطر بيئية واقتصادية، فالأمن الإقليمي مستتب، والعلاقة مع الدولة الأقوى راسخة! والنظام الإقليمي منضبط! أما اليوم فإن المخاطر التي تحيط بالخليج هي مخاطر "وجود" وليست مخاطر "عابرة"، فمع نزيف غزة يوضع اللوم على دول الخليج باطلاً، وتفتح جبهة حرب على الممرات المائية في جنوب الجزيرة، وتتداعى الدول الكبيرة لمواجهتها، لما تسببه من مخاطر على الاقتصاد العالمي وحرية الملاحة في الممرات البحرية.
لقد وضع لقاء الدوحة لقمة الخليج الرابعة والأربعين في الأسبوع الأول من كانون الأول (ديسمبر) الحالي الإشارة المستحقة في ذلك الطريق، الذي يشير إلى المخاطر وأهمية ضبط الأمن، واحدة من الإشارات التي جاءت في البيان النهائي، ولكن أهمها لبقاء الوجود، هي التأكيد في البيان الختامي الفقرة 20 على الآتي: اطلع المجلس على ما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قرار المجلس الأعلى في دورته الثانية والثلاثين، حول مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله من ضرورة، "الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد" وتوجيه المجلس الأعلى للاستمرار في دراسة الموضوع... وأيضاً "تكليف المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المختصة باستكمال اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ورفعه إلى المجلس الأعلى في دورته القادمة".
كانت تلك الفقرة إشارة إلى أن المخاطر على الخليج تتعاظم ويعترف بها، وأن التجهيز النفسي والإعلامي على منظومة الخليج في محاولة لإضعاف الجبهات الداخلية تمهيداً لاختراقها أمر قائم، هو أمر جدي يحتاج إلى مواجهة جادة.
الأفكار، وخاصة السياسية، تحتاج وقتاً إلى أن تنضج وتتحول من أفكار إلى مشروعات منفذة، إلا أن هذا الوقت في التفكير والدراسة إن طال،يتعرض المشروع كاملاً إلى الإهمال، ما يعظّم المخاطر.
قمة مجلس التعاون الرقم 32 التي عقدت في الرياض وكانت في كانون الأول (ديسمبر) 2011، وقتها كانت رياح "الربيع العربي" تهب بشكل معاكس، وتهدد المنطقة بالاضطراب، اليوم الرياح أكثر شدة وأشد غموضاً ومعاكسة مع حرب غزة، وصراع دولي وإقليمي مشهود، من جهة المشروع الإيراني التوسعي، ومن جهة أخرى المشروع الغربي الصهيوني.
اليوم دول مجلس التعاون تواجه تحديات كبرى، في مرحلة انتقالية من تاريخ العالم، مرحلة تتحول تدريجياً من القطب الواحد إلى تعدد الأقطاب دون أن تنضج العلاقة بينهما، ومرحلة ليس فيها مرجعية دولية تستطيع أن تقرر حلاً للمشكلات العالقة في العالم، ونحن نشاهد مجلس الأمن الذي يتعثر مرة تلو أخرى، في اتخاذ قرار وقف إطلاق النار في الحرب التي تحصد أرواح الفلسطينيين دون هوادة، في معركة إبادة نادرة في حجمها في التاريخ الإنساني، على المستوى العالمي، أمامنا حرب تقترب من سنتها الثالثة في أوكرانيا يدفع فيها الطرفان الروسي والأوروبي الأميركي أثماناً باهظة، وتسمم العلاقات الدولية، وتصيب الاقتصاد العالمي بمقتل، وكذلك أمامنا حرب في الإقليم في غزة تسعى حثيثاً إلى شهرها الثالث، وتُدفع فيها أيضاً أثمان باهظة من الأرواح وخاصة الفلسطينية، ولا مكان للانفراج لها حتى الآن. في الحالين يقف "المجتمع الدولي" وهو بالمناسبة مفهوم غامض، يقف مكتوف اليدين أمام هذه التطورات نتيجة الاستقطاب الحاد بين المعسكرين الغربي والشرقي.
ما يمكن أن يُستخلص بالنسبة لدول الخليج، أن الدولة الكبيرة أو المتوسطة والتي تستشعر القوة، وترى أن لها مصلحة ما في قضم أراضي دولة أخرى، لا تتردد بأن تقوم بذلك، لأن البيئة الدولية عاجزة عن ردعها، كما في أوكرانيا وغزة، فهي، أي البيئة الدولية السياسية، قد تغيرت عما كانت عليه عام 1990 عندما غزا العراق الكويت، لقد تغير الفضاء العالمي دون رجعة.
المُنجي من هذا المأزق المحتمل هو "إيلاف الخليج" الحديث، وتبني خطط خليجية مشتركة وطويلة الأمد للحفاظ على أمن الخليج وإبعاده عن الصراعات، وردع – جماعياً - أي من القوى التي ترغب في استثمار الوهن العالمي لتحقيق مصالحها، الابتعاد من تلك الحقيقة أو محاولة التهوين من المخاطر أو حتى "إنكارها" هو قصر نظر، قد يدفع ثمنه باهظاً من الأمن والاستقرار في المنطقة.
في الوقت الذي نرى علناً كم هي القوى المحيطة بالإقليم مفتوحة الشهية للتوسع، على سبيل المثال لا الحصر، هناك تدخّل روسي في سوريا، مسكوت عنه تقريباً، وتدخل إيراني في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، أيضاً مسكوت عنه تقريباً تحت ذرائع مختلفة، وهناك إعلان واضح من السيد وزير خارجية إيران الحالي في كتابه المنشور في بيروت من منشورات المحجة البيضاء وهو بعنوان "صُبح الشام"، يعود فيه إلى "الرطانة السياسية"، يقول بالنص عن مملكة البحرين "جزيرة صغيرة انفصلت عن إيران عام 1971 بسبب سوء تدبير النظام البهلوي"، ليس أوضح من هذا النص من رأس الدبلوماسية الإيرانية، لبيان الشهية التوسعية، ضارباً عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن، والاعتراف الدولي بمملكة البحرين!
ولكن هذه الشهية لا تتوقف هناك، فقد بدا الاستثمار مع طول الصراع في غزة في "شيطنة دول الخليج" وحملة إعلامية ونفسية، وكأنها هي التي تقوم بالحرب لا غيرها!! مع إغفال كامل للمساعدات الإنسانية التي تقدمها هذه الدول دون منّة أو الجهد الدبلوماسي النشط.
إيلاف الخليج يحتاج إلى آلية حديثة ومتحضرة لفض النزاعات متى ما ظهرت، حضارياً، ذلك من جهة، ومن جهة أخرى الاعتراف بأن أمن الخليج وحدة لا تتجزأ، إن تعرض جزء منها إلى مخاطر، فقد تتداعى إلى الجوار. بهذا المنظور الشامل يجب النظر إلى المخاطر الأمنية وليس من المنظور الجزئي، لأن القوى الطامحة تتحين الفرص، فهل من مستجيب؟