بقلم : د.محمد الرميحى
شدتني في رمضان قراءة كتاب "السعودية المتغيرة" للمؤلف شون فولي من ترجمة نهى عبدالله العويضي ومنشورات (دار آداب للنشر، الرياض 2022).
الكتاب لا يتحدث عن المملكة العربية السعودية ونهضتها الاقتصادية، ولا عن النهضة الاجتماعية، ولا الخطط الكبرى التي تنفذ اليوم في مجالات شتى. الكتاب المكوّن ممّا يقارب 480 صفحة من القطع المتوسط، يتحدث عن النهضة الثقافية في المملكة، وكوني من الرأي القائل بأن الثقافة هي حجر الزاوية في نهضة المجتمعات وقائدة التغيير، قرأت الكتاب بشغف. المؤلف ليس أكاديمياً، ولكنه عاشق للفنون وممارس لها، وقد كتب ذلك الكتاب بعد جولة له في المملكة العربية السعودية اطلع فيها على نهضتها الفنية، والترجمة السلسة للكتاب أغرت بقراءته.
الفنون عامةً هي قائدة التغيير، فالمسرح يشكل الرأي العام، والفنون التشكيلية ترقّي ذائقة الجمهور، والموسيقى تجعل الإنسان مرهف الإحساس ومقبلاً على الحياة، وقد قيل إن مسرحية واحدة يُصرف عليها بسخاء، خير من شراء دبابة للحرب!
من قراءة سابقة أن الرئيس جمال عبد الناصر بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967 أوعز إلى أهل الفن والمسرح بالطواف في المدن المصرية من أجل إعادة الثقة بالدولة، بعد تلك الهزيمة قامت الفنون بأنواعها بشد عضل الدولة وقتها لما لها من تأثير على الجمهور.
ما أعجبني في الكتاب أنه دخل على موضوعه من زاوية ذكية جداً، فقال إنه "في نيسان/ أبريل 2020 التقى وفد كبير من مسؤولين أجانب ولي العهد محمد بن سلمان ومجموعة من المسؤولين السعوديين في الرياض، كان الاجتماع الذي عقد في غرفة رسمية، شبيهاً بالاجتماعات الأخرى، ولكن بعد ظهور صور الاجتماع على الناس لاحظ المتابعون أحد التفاصيل المهمة، إذ اختفت الصور الرسمية في الخلفية من الصورة، وظهرت لوحة بارزة للفنانة التشكيلية السعودية لؤلؤة الحمود، معلقة على أحد جدران الغرفة، وقريبة من مكان جلوس ولي العهد".
هذا المشهد الذي يدخل به الكتاب لافت، إذ علق الكاتب بأن ظهور تلك اللوحة لفنانة سعودية عبر عنه المتابعون في وسائل التواصل الاجتماعي بـ"الدهشة والفخر"، وكان مدخلاً للفت النظر إلى أن محمد بن سلمان، كما صرح وزير الإعلام لاحقاً، كان قد وجه منذ عام 2013 بأن تكون الأعمال الفنية التشكيلية في كل مقاره الرسمية موضوعة بأيد سعودية، فكانت الرافعة التي دفعت المسيرة الثقافية الزاهرة إلى الأمام.
الالتفات إلى القوة الناعمة في المملكة العربية السعودية وبهذا الزخم، بعد سنوات من القيل والقال، تحت غطاء التشدد، يلفت النظر إلى وعي القيادة وإصرارها على بعث تلك القوة الناعمة، سواء في المسرح أم المسلسلات التلفزيونية أم أشكال الثقافة المختلفة من نشر الكتب والاحتفاء بالقراءة، واليقين بأنها هي التي تضع أجندة المجتمع، وترتقي بالذوق العام وتكون قوة مضافة للدولة وللاقتصاد معاً، والالتفات إليها من القيادة يعني وضع أجندة مختلفة وحضارية للمجتمع في ما يعرف بـ Game Changing الذي أخذت به الدولة السعودية منذ سنوات، بشجاعة وتصميم.
هذا الوعي بتغيير شروط اللعبة، إن صح التعبير، هو خلف ذلك التوجيه الحضاري إلى كل قطاعات الدولة السعودية وإلى كل الهيئات الحكومية والوزارات بشراء الأعمال الفنية المنفذة بأيدٍ سعودية كما يؤكد الكاتب.
الثقافة بنشاطاتها المختلفة هي صناعة مدرة للدخل أيضاً، تكفي الإشارة إلى أن الدخل الأعظم لبلد مثل الولايات المتحدة ليس بيع السلاح، ولا الصناعات المعتمدة على الحديد والصلب، بل الأعظم هو تصدير البرامج المعتمدة على العقول، كمثل السينما ومنتجات العقول الأخرى المختلفة!
الأفلام والموسيقى والشعر والأدب والأوبرا وعروض المسرح ومسلسلات التلفزيون هي الأسرع في تشكيل وعي المواطن والأكثر رسوخاً، كما أنها مدرة اقتصادياً إن جوّدت وأتقن تنفيذها، ليس هناك مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر تخبو فيه الثقافة بتنوعها، فهي صنو للنهضة، وطريق للتقدم الحضاري.
يأتي الكتاب على أسماء مجموعة كبيرة من الفنانين السعوديين في كل مجالات الإبداع، كثير منهم لم يُعرف في السابق إلا في حدود مجاله الجغرافي، أما هذا الكتاب فيستعرض أعمال هؤلاء الفنانين، قديماً وحديثاً، وبعضهم وصل إلى العالمية في وقت قصير، فيضعهم وأعمالهم أمام القارئ بشكل موضوعي واحترافي، مع نقد موضوعي ونظرة تاريخية.
يشير الكاتب إلى انتشار المراكز الرسمية والخاصة لتدريب السعوديين في معظم المدن السعودية على مجمل الفنون التي تقوم الدولة برعاية بعضها، والتحول من فنون القول إلى فنون الأداء، كما يقوم القطاع الخاص برفد هذا التوجه، فنحن أمام نقلة نوعية بعد فترة زمنية كان ازدراء الفنون هو الشائع فيها لدى المتزمتين، وكانوا يُسلعون هذا الازدراء بمفردات من النصوص مجتزأة من سياقها قيدت حريات الناس وساعدت على ضمور النشاط الثقافي وأدخلت المجتمع في سبات.
يسرد الكتاب عدداً كبيراً من الأمثلة والأشخاص والتجارب، حتى تكاد كقارئ تعتقد أنك أمام شكل من أشكال "المعجزة" بعد التعرف إلى مجمل نشاط النساء والرجال القائمين على تلك النشاطات الثقافية، وقد كيفت أعمالهم بطريقة ذكية، وربما مذهلة، وقامت بتعبيد الطريق للإبداع في مجالات الثقافة المختلفة، إذ انتشرت أعمالهم بين القارات وعلى منصات عالمية للإبداع الثقافي.
أي متابع للنهضة الثقافية المعاصرة في المملكة لا يستطيع الاستغناء عن قراءة هذا الكتاب الذي بذل كاتبه جهداً مشكوراً وكذلك مترجمته، إلا أن الفكرة المركزية هي إيمان القيادة بدور الثقافة في المجتمع من الناحية الجمالية والذوقية والاقتصادية، وأنها قيمة مضافة وقوة ناعمة، هو ما يشكل جزءاً من صورة السعودية المتغيرة.