مع إعلان الهدنة وجدنا رأيين يعتمد قائلاهما على عاطفتهما وعلى قناعاتهما، الأول أنّ "حماس" قد انتصرت وأرغمت الإسرائيليين على قبول شروطها، والثاني أنّ إسرائيل انتصرت وأرغمت "حماس" على إطلاق سراح الأسرى، وفي الحدّ الأدنى يبدو أنّ الرأيين على الأقل متسرّعان، فقد توعدت إسرائيل باستئناف الحرب، وحتى تضع تلك الحرب أوزارها يجري حساب الربح والخسارة.
الحرب في غزة فتحت ملف فلسطين على كل أوراقه، وبصرف النظر عن موقف بعضهم من "حماس"، كمنظمة إيديولوجية، فالقضية المطروحة اليوم أكبر، وهي فلسطين والفلسطينيون، وإن كان لـ"حماس" مناصرون أو مخالفون، فذلك خارج الحديث أو من المفروض أن يكون خارج الحديث اليوم .
الفلسطينيون أمام عدو شرس، لم يقم حتى الاستعمار التقليدي بكل سَوْءَاته، سواء الفرنسي أم البريطاني أم حتى الإيطالي، بما يقوم به النظام الإسرائيلي اليوم. في وسط القرن التاسع عشر وأمام العصيان الهندي، قامت السلطات البريطانية في الهند بوضع قادة العصيان أمام فوهات المدافع وأمام الناس وأطلقت النار فانتثرت بقية جثثهم في الهواء. ما يحدث في إسرائيل عبودية كاملة، يرى العالم أشكالها المختلفة أمام عينه، كما يسمع من بعض أهل الضمير في إسرائيل بعض المعلومات المؤكّدة. قال جندي سابق على إحدى محطات التلفزيون، إنّ الأجهزة الإسرائيلية تضع أرقاماً لكل المنازل في كل بقعة من الضفة الغربية، وتعرف كم عدد سكان المنزل وطبيعة أعمالهم، كما تكتظ تلك البقعة في فلسطين (الضفة الغربية) بأكبر عدد من كاميرات المراقبة في العالم أجمع.
مما سمعنا ممّن أُطلق سراحهن من السيدات والفتيات الفلسطينيات، وهن بالمناسبة لم يُتهمن بتهمة محدّدة، أو تصدر في حقهن أحكام، من معاملتهن بوضعهن في حجرات الحجز المنفرد والاعتداء عليهن وطرق التعذيب التي تعرّضن لها، نعرف الى أي حدّ وصل الصلف الإسرائيلي وإلى أين وصلت العبودية.
زار رئيسا وزراء إسبانيا وبلجيكا معبر رفح المصري، وقالا ما يقوله أي عاقل في هذا العالم من ضرورة إنصاف الفلسطينيين، استشاط النظام في تل أبيب غضباً واستدعى سفيري الدولتين لتقريعهما على ما صرّح به رئيساهما، في خطوة احتقارية لهاتين الدولتين الفاعلتين في مجالهما الأوروبي والدولي.
زيادة على ذلك، فقد أعلن بنيامين نتنياهو أنّه وجّه جهاز الاستخبارات (الموساد) بوضع خطط لاغتيال زعماء "حماس"، أينما وُجدوا في العالم، ضارباً من جديد بأي حدود أو وجود للدول المستقلة، التي قد يمرّ فيها أو يقطنها أي منهم، في سابقة لم يفعلها عتاة السياسة القمعية في كل تاريخ العالم الحديث.
كل تلك المؤشرات تدلّ على كمّ الخوف لدى أغلبية الإسرائيليين والذي تعبّر عنه تصريحات السياسيين. كما تجدر الإشارة إلى أنّه في حال استئناف الحرب بعد الهدنة، فإنّ إسرائيل ستكون أكثر توحشاً وقسوة، بحسب معلومات من بعض الأسرى المُفرج عنهم، وبالتالي يمكن افتراض أن يُحرّر باقي المحتجزين بعملية صاعقة تقوم بها القوات الإسرائيلية، فتحقق هدفين في وقت واحد، تحرير المحتجزين وأيضاً إعادة الثقة بالجيش الإسرائيلي في الجبهة الداخلية.
من جهة أخرى، لا يجب أن يراهن بعضهم على المسيرات والتظاهرات، وحتى على الأصوات التي تأتي من الدول الغربية الكبيرة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. تلك الأصوات شعبية، وحتى من معها من اليهود هم من الطبقات الوسطى، فما زالت الصهيونية تمسك بزمام الأمور والمفاصل الحاكمة في النخب الغربية، في الصناعات والإعلام والنشاطات السياسية في تلك البلد. وتركن النخبة الإسرائيلية الى تأييدها المستمر وغير المشروط، حتى في بعض الأوقات فوق رأس السياسيين المحليين.
في مجمل وسائل الإعلام الغربية نرى تركيزاً على أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ولكن لا أحد يريد أن يسمع عن السجن المفتوح في غزة، أو عن الذلّ الذي يلقاه يومياً قاطنو مدن الضفة ومخيماتها، أو عن عدد المعتقلين والمعتقلات من أهل فلسطين في السجون الإسرائيلية المكتظة، أو الصلف الذي يواجهونه كل يوم وكل ساعة. لقد حوّل الإسرائيليون خبرتهم التاريخية في العيش في "الغيتو" الأوروبي، إلى أن يعيش الفلسطينيون في مخيمات، الأحرى أن تُطلق عليها تسمية "غيتوات"، فهي أسوأ مما كان اليهود يعيشون فيه في أوروبا، إذ لم تكن منازلهم مرقمة ولم تكن كاميرات الرقابة قد اختُرعت بعد!
ما تقدّم هو بعض الصور التي يواجهها الفلسطيني في غزة أو الضفة المحتلة، وهي لا تُحلّ بالتمنيات ولا حتى بالأدعية، كما يحلو للبعض ترويجه، هي تتطلّب عملاً مسؤولاً وجدّياً، على رأسه وأول أولوياته وحدة الفلسطينيين أنفسهم. فقد تسبّب الانقسام والفرقة والتنابذ بأن يكون من السهل الانفراد بالجماعات الفلسطينية، كما سهل أيضاً على الاسرائيليين القول إنّ الفلسطينيين غير متفقين على هدف واحد ومحدّد. شيء من الابتلاء في العمل الفلسطيني اسمه المزايدة، وهو جزئياً من نتائج التخلّف السياسي والشهوة للزعامة، وفي كل مراحل النضال الفلسطيني.
التعاطف العالمي المشهود اليوم هو في أحسن الأحوال موقّت، وربما غير مؤثر في المدى المتوسط، والركون إليه دون مشروع سياسي موحّد لكل الأطراف الفلسطينية يُعلن في هذه الفترة ويُعمل على الدعوة إليه عالمياً، هو تضييع فرص، وقد يعرّض القضية إلى خسارة، بخاصة إن استمر الإسرائيلي في حربه المتوحشة على غزة في الأيام القليلة المقبلة، وسكتت سكوت الموتى "وحدة الساحات" واعتمدت على "قواعد الاشتباك" لذرّ الرماد في العيون! وقتها سوف يستفرد بغزة وأهلها، وربما يسمح العالم بذلك على أنّه "الحل النهائي"!
الأمر إذاً يحتاج إلى مصارحة ومصالحة وتوزيع أدوار وتناغم ونصرة، من دون ذلك فإنّ من طُحنت عظامهم تحت المباني في غزة، من أطفال ونساء وشيوخ، تكون تضحياتهم تمّت خسارتها على أيدي السياسيين وأصحاب الأصوات المرتفعة في ساحة المزايدة!