توقيت القاهرة المحلي 11:13:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الاستثمار في الخوف!

  مصر اليوم -

الاستثمار في الخوف

بقلم : د.محمد الرميحى

رويت مرة أنه في إحدى الندوات التي انعقدت في بيروت وسط الثمانينات، قابلت صديقاً قديماً من أهل فلسطين الداخل، وفي الاستراحة سألته سؤالاً (بدا لي في ذلك الوقت أنه منطقي!): هل تعلمتم شيئاً من الإسرائيليين؟ قال ضاحكاً: لقد تعلموا منا! بقيت تلك الإجابة في ذاكرتي! كنت مفترضاً خطأ أن الإسرائيليين، أو على الأقل نُخبهم، من نتاج الليبرالية الغربية، وبالتالي يحملون شيئاً من صفاتها السياسية على الأقل، وكان افتراضي أيضاً قائماً على أنها «الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، وأن إسرائيل اعتمدت العلم واعتمدنا العاطفة؛ كل تلك الافتراضات بدأت أعيد النظر فيها من جديد.

تلك الافتراضات لم تكن قائمة على تحليل عقلي؛ فجيراننا الإسرائيليون هم بشر عاديون، إضافة إلى حملهم «خوفاً تاريخياً عميقاً من الاضطهاد» الذي تعرضوا له في المجتمعات الغربية، لذلك تقوم عامتهم ونخبهم باضطهاد الآخرين، جزعاً منهم، من دون أن يؤثر فيهم الشكل المؤسسي الذي اختاروه لدولتهم (الأحزاب والانتخابات)، ولا حتى القانون الدولي أو حتى الإنساني. الخوف كوّن عقدة دفينة في العقلية الإسرائيلية، إلى درجة أنهم استعاروا الكثير من مفردات التشدد التي سادت لدى العرب في فترة «الثورات»، كالقول إنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» التي قال بها أفخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لإحدى محطات التلفاز العربية بعد أيام من اشتباكات 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. وبيان ذلك الخوف أن معظم الإسرائيليين المدنيين لم يزوروا قَطّ الضفة الغربية المحتلة رغم احتلالها الطويل، كما أن انسحابهم من غزة دافعه نفس السبب؛ الخوف، بل أصبح الخوف رأس مالٍ استثمارياً في السياسة الإسرائيلية.

لم تكن استعارة التشدد الإسرائيلي قادمة من الشرق فقط، معظمه استعاره الإسرائيلي من الغرب. وفي النقاش الدائر حول غزة في وسائل الإعلام، يتحدث كثيرون من المتحدثين الإسرائيليين، أننا يجب أن «نمحو غزة، كما فعل البريطانيون في درسدن»! مدينة ألمانية من مجموعة من المدن، مُسحت من الأرض بمن فيها من بشر، بفعل الغارات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، أو علينا أن نفعل كما فعلت أميركا في كل من نغازاكي وهيروشيما!

إذاً، العنف المفرط ليس له هوية أو شعب، ربما هو طبيعة ثانية في الإنسان، بخاصة إن شعر بأنه من جهة محاصر، ومن جهة أخرى يملك وسائل القوة، لكن هناك حقيقة أخرى؛ فإن لم تستطع بالعنف أن تتخلص نهائياً من عدوك، فإن ذلك العنف سوف يرتد عليك مع بقاء مناوئيك حولك؛ لذلك ظهرت نظرية «الترانسفير» (التهجير) كجزء من العقيدة السياسية الإسرائيلية، وما استهداف المستشفيات إلا جزء من تلك العقيدة.

أصبح القتل المباح بعد 7 أكتوبر، وبخاصة من الجانب الأقوى، أكبر كثيراً وأشد وطأة، ويصل إلى حد الإبادة البشرية، وقد استقصد الأبرياء قبل المقاتلين، من أجل إرسال رسالة «اطمئنان» للشعب الإسرائيلي، إلا أنه على الجانب الآخر وقع ربما في مصيدة من خَطط ونَفذ 7 أكتوبر؛ بمعنى أن ردات فعله غير المتوازنة، زادت من منسوب الراديكالية في المنطقة العربية من العراق إلى المغرب، مروراً بكل العواصم العربية وحتى الإسلامية، وأصبحنا كمثل عشية إعلان دولة إسرائيل عام 1948، حيث اندفعت وقتها مجموعات العسكر العرب إلى التسابق لاحتلال عواصمها، ومن خلال البيان الأول الذي يقول بتحرير فلسطين!

من الخطأ المنهجي مقارنة مخرجات ما حدث «عام 48» مع ما يحدث اليوم، وإن تشابه الحدثان في الظاهر؛ لأننا أمام عصر آخر، انفجرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تعد «المجازر» كدير ياسين مثلاً يُسمع عنها ولا تُرى، لقد سُمعت أحداث 7 أكتوبر حتى في أميركا بقتل طفل ووالدته بنصل سكين، فقط لأنه عربي؛ لذلك فإن المتوقع ألا تكون ردات الفعل عسكرية هذه المرة، بل ستكون أصولية، فاقدة لأي تفسير منطقي!

الشرق الأوسط الجديد الذي يبشر به السيد نتنياهو، لن يكون أفضل من الشرق الأوسط القديم الذي ظهر بعد عام 1948، وسيادة العسكر والمزايدة السياسية، بل ربما أسوأ، وقتها استحوذ أنصاف المتعلمين على الحكم في الكثير من الدول العربية، وخلف ذلك الحكم، بدرجات متفاوتة، كل المآسي التي نعرف اليوم، وفي ثلاثة أرباع القرن تخلف التعليم، وتدهورت التنمية، وحارب العسكر حتى طواحين الهواء في حروب خاسرة، ثم حاربوا أبناء أوطانهم، وسُحقت الطبقة الوسطى المستنيرة، ووئدت تجارب المشاركة الشعبية على بساطتها، وماتت السياسة بموت حق الجهر بالرأي!

العنف الإسرائيلي الحاصل سوف يغذي ذلك التشدد الجديد (الأصولي) على الجانب العربي ممزوجاً بالجهل والخرافة، وسوف تتراجع كل مؤشرات التعافي التي تمت في بعض الأوطان. فهو بذلك يخدم المشروع «الذي من المفروض أن يكون عدوه نظرياً».

لا يوجد في الجو الحالي من التعصب الأعمى حجم وازن من الإسرائيليين الذين يمكن معهم إصلاح أو تعديل تلك المعادلة الرديئة التي مررنا أكثر من مرة بها؛ فالعنف سيد الموقف، ومن المؤكد أن ذلك المسار سوف يصب لصالح معسكر التشدد في المنطقة، بخاصة أن ذلك المعسكر بعيد عن دفع ضريبة الدم، فالدم الذي يسال هو معظمه عربي، وبعضه إسرائيلي!

الموقف الغربي أيضاً يفوته التعرف إلى أعمق إشكالية في هذه المعضلة التاريخية؛ فموقفه المتحيز يزيد من سرعة الانزياح السريع للجماهير في المنطقة إلى معاداته، بسبب سياساته قصيرة النظر، وربما الانتهازية، والمترددة في اجتراح حل معقول للقضية، والذهاب في الغالب إلى الحلول المؤقتة، فإن لم تخرج أصوات عالية وعاقلة في الغرب للمطالبة بحل الدولتين المتفق عليه دولياً، ولجم شهية اليمين الإسرائيلي للحكم والتحكم؛ فإن انزلاق الإقليم، رضي البعض أو لم يرضَ، إلى حضن التشدد القائم على الخرافة والمؤدي إلى الجهل والفاقة والقمع، لا محالة.

آخر الكلام: تتدخل الدول الكبيرة والمتوسطة في الصراع الدائر، معظمها «ليس حباً في ليلى...».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستثمار في الخوف الاستثمار في الخوف



GMT 09:00 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

هل مع الفيروس الجديد سيعود الإغلاق؟

GMT 08:25 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

التغيير في سورية... تغيير التوازن الإقليمي

GMT 08:24 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

هذه الأقدام تقول الكثير من الأشياء

GMT 08:23 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أحاديث الأكلات والذكريات

GMT 08:23 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

كبير الجلادين

GMT 08:21 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

سوريا... والهستيريا

GMT 08:20 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

جرعة تفاؤل!

GMT 08:18 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

لا يطمئن السوريّين إلّا... وطنيّتهم السوريّة

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon