بقلم : د.محمد الرميحى
ثار في الإقليم الخليجي منذ أسبوعين نقاش بين بعض النخب في دول الخليج ونخب كويتية، صلب ذلك النقاش هو هل الديموقراطية لازمة للتنمية، أم أن التنمية يمكن أن تتحقق من دون ديموقراطية؟ وسار الجدل مع أو ضد، ومجمله هو نقاش عاطفي تنقصه في الغالب ذخيرة معلوماتية ذات كفاءة، وهو بالتالي من دون أجندة عقلانية، فالسؤال المطروح يفترض أن يكون: أي ديموقراطية وأي تنمية وفي أي مجتمع؟
منذ أن بدأت التجربة الكويتية قبل ستة عقود ونتائجها محط نقاش بين أهلها في الكويت وجيرانهم في الخليج. البعض من النخب في الخليج يرون أنها تجربة تستحق أن تكرر مع بعض الرتوش الواجبة، وبعضهم يرى أنها عطلت التنمية الكويتية، بل جعلت الكويت في الكثير من الملفات في ذيل المسيرة الخليجية التي تتقدم عمراناً واقتصاداً، وهناك من النخب الكويتية من يرى ذلك وينتقد التجربة بقسوة، بل يرى فيها كل الشرور، وآخرون يرون أن الحريات، حتى النسبية المحققة في الكويت، هي امتياز يجب عدم التخلي عنه، فهو الذي يتيح ذلك الجو من النقاش السلمي العلني بين المختلفين، ومن دونه يتحول الناس إلى "خشب مسندة"!
بين هذين الرأيين يتحرك النقاش، وكما قلت لا يخلو من عواطف أو تفاخر بما كان يجب أن يظهر على السطح.
الحقيقة أن الكويت تتمتع بديموقراطية (بدال صغيرة)، فهناك عيوب كثيرة واكبت التجربة وما زالت عالقة من دون حل، وقد كتب حولها الكثير، منها قوانين الانتخاب المتغيرة، وطريقة الترشح، وضبط العملية الانتخابية، وأيضاً السماح للأحزاب بشكل منظم وحديث، إلا أن التجربة تفتقد شيئاً مهماً، وهي كما يقال بالإنكليزية no democracy without meritocracy ويعني ذلك أن الديموقراطية يجب أن تفرز إدارة عامة من الكفاءات، والحاصل أن الإدارة العامة لا تعتني بالكفاءات، جزء من تلك المعضلة يدخل الأعضاء المنتخبين في تسكين الأقرباء والمفاتيح في درجات الإدارة العامة المتوسطة أو العالية، ومن جانب آخر شيء من خضوع القائمين على العمل التنفيذي (الوزراء) لتلك المطالب في الغالب، وفي بعض الأحيان المساهمة فيها باختيار الأقارب أو الأنسباء أو الموالين للمناصب العامة، أي تفشي ظاهرة الزبائنية. هنا ينتفي تماماً وجود الكفاءات، فيتدنى العمل العام ويضج الناس من نقص الخدمات أو تدنيها، ومن جانب آخر، فإن تلك الممارسة تؤدي في الغالب إلى انتشار الفساد، فيصب اللوم على الديموقراطية!
السبب العام والأساسي، أن الحاضنة العامة أي المجتمع، هو مجتمع ريعي لم يمر، كما في الديموقراطيات الحديثة بالثورات الثلاث، الصناعية، والسياسية، والتقنية! فالممارسة تشوّه إلى حد زوال الفائدة منها.
من جانب آخر، فقد وجدت بعض الدراسات أن الطبقة المتوسطة في المجتمع يمكن أن تتخلى عن الديموقراطية إن وجدت كفاءة عالية في الإدارة العامة في المجتمع، هذه الدراسات تمت في الولايات المتحدة طبعاً مع الأخذ بفارق الثقافة، إلا أن الأمر نظرياً يمكن أن يكون صحيحاً في ضوء التجارب في العالم الثالث، فالممارسة في هذا العالم ومنه عالمنا العربي، أن الديموقراطية هي على الأقل عرجاء وعدم تطويرها يزيدها عوجاً، بل إن المفهوم صار مبتذلاً، فالسيد القذافي رحمه الله كان يتحدث عن الجماهيرية (الديموقراطية) وكذلك عمر البشير وغيرهما من أهل السلطة التي مرت بنا بمراراتها.
على الجانب الآخر، يمكن أن تجد قيادة ليس لديها صناديق انتخاب في بلدانها، لكنها تحرص على اختيار الكفاءات في تسكين الإدارة العليا والمتوسطة، وأيضاً تقوم بمراقبتهم وتتبع ما يفعلونه، وكونهم بشراً في الغالب يرغبون في غياب المناقشة الحرة، فإنهم يرغبون في إرضاء رؤسائهم.
هنا لدينا افتراضان: الأول وجود ذلك القائد الواعي أهمية اختيار القيادات بحسب الكفاءة، ولكن الافتراض الثاني وفي عدم وجود مساحة للرأي والرأي الآخر، قد تميل الإدارة هنا إلى تجاهل المصلحة العامة لإرضاء متخذ القرار! وقد تختفي الصعاب والمشكلات التي يواجهها الناس في غياب حرية معقولة للرأي في الشؤون العامة، ويجري تمجيد القائد من خلال المديح المدمر، حتى يفاجأ باتساع عدم الرضا عند الجمهور العام، وعندها لا يمكن تدارك الأخطاء التي دفنت لفترة تحت السجادة، بسبب تدني سقف الحريات.
لذلك فإن القول الأكثر عقلانية هو أن تكون هناك حريات نسبية، مع أخطاء التنفيذ، تسمح بنقد ما تقوم به الإدارة العامة، بدلاً من أن يكون هناك إنجاز من دون حريات، لأن ذلك الإنجاز قد يحمل ضيماً لشريحة أو بعض شرائح المجتمع، أو قد يأتي قائد فاقد الاتصال بمجتمعه ويتحول الأمر إلى دكتاتورية لها علاقة بـ"أنا ربكم الأعلى"!
نهاية الأمر أنه ليس هناك خير كامل أو شر كامل، السؤال الذي تتوجب الإجابة عنه هو: كيف يمكن أن نحقق تنمية ومعها الحفاظ على الحريات؟ هل ذلك ممكن؟ نعم ولكن من جديد يحتاج الأمر إلى قيادة ذات رؤية وإدارة عامة ترتكز على إبعاد الزبانية، مرجعها القانون العادل، وتتأقلم مع الحداثة!