توقيت القاهرة المحلي 20:07:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من سرق المصحف؟

  مصر اليوم -

من سرق المصحف

بقلم : د.محمد الرميحى

العنوان ظهر على غلاف أكثر من كتاب للنص نفسه، واستخدمه أكثر من كاتب في السنوات الأخيرة. كل تلك الكتب تناقش لماذا وكيف حدث ذلك الاختطاف للدين من عدد من الجماعات والأفراد الذين حوّلوه إلى سلعة في ظاهرة اسمها "تسليع الدين"؟ إنها ظاهرة تحاصرنا، ليس بشكلها المنظم السياسي فقط، ولكن أيضاً بشكلها المشيخي الإفتائي الاجتماعي. الفتوى في السابق كانت تتداول في نطاق ضيق، أما بعد اتساع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، قد أصبحت شائعة، وبعضها مثير، ومعظمها خارج سياق حتى العقل السليم.
 
إنها انعطافة إلى الخلف وبشكل حاد ومخيف. 

شيخ تعوّد الظهور على وسائل التواصل، صدر له فيديو أخيراً يقول فيه إن مُدرّسة موسيقى سألته: "هل أترك عملي في تعليم الموسيقى؟"، فرد عليها (الشيخ) بكل ثقة: "نعم عليك أن تبحثي عن عمل آخر". قد يقول بعضهم إن هذا رأي شخصي، وخارج السياق لتفكير أي إنسان عاقل يعرف ما حوله، ولكن إن علمنا يقيناً أن لهذا الشيخ مريدين ربما أكثر  عدداً من مجموع مريدي "الفشنستات"، تعرف خطورة هذا الكلام الفتوى التي صدرت من ذلك الشيخ الخليجي على الجمهور!

طبعاً الافتراض أن السؤال جاء بالفعل من مدرّسة موسيقى! ولكن الافتراض الآخر أن الشيخ افتعل ذلك السؤال ليقول لمريديه إن الموسيقى حرام! في محاولة لتغطية رد فعله (المعترض) على خبر صدر من الجهات الرسمية في المملكة العربية السعودية، إذ نقلت صحيفة "عكاظ" السعودية بتاريخ 2 أيار (مايو) الماضي خبراً يقول: "سبعة آلاف معلمة أطفال يتدربن على الفنون الموسيقية". ويكمل: "انطلقت المرحلة الأولى من البرنامج التأهيلي يوم أمس بإشراف هيئة الموسيقى التابعة لوزارة الثقافة"، ونُشر الخبر على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي.  

الشيخ يريد أن يقول لمريديه الكثر إن الموسيقى حرام، وهو أمر قد يوافق له عليه معظم، إن لم يكن كل مريديه، ويعرف المتابع أن هناك كما من المريدين لهذا الشيخ من خلال ما تطلقه ماكينته الإعلامية بكثافة من فيديوات تبين استقباله الجماهيري في أي مكان يذهب إليه! 

اختطاف المصحف لا يقتصر على ذلك الشيخ، فالعديد من الشيوخ، سواء أكانوا معممين أو مستدلي الكوفية، يعيثون في عقل المواطن العربي فساداً عقلياً، ويكاد بعضهم يُقدس، وكثير منهم قولهم "معصوم" لدى عدد كبير من الناس الذين يفتقدون الحماية الثقافية لتبيان الباطل من الصحيح. 

نعود إلى الموسيقى، فقد دخل العرب والبربر المسلمون إلى الأندلس مع بدء القرن الثامن الميلادي، أي منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وهناك طوّروا غناء"المألوف" الذي ما زال يُغنى وتُعزف موسيقاه في الشمال الأفريقي العربي. الأندلس أيضاً كانت منبع ما عُرف لاحقاً بـ"القدود الحلبية" التي وضعتها اليونسكو على قائمة التراث العالمي غير المادي أخيراً (عام 2021). فالموروث الغنائي العربي ومقاماته الموسيقية جزء من الحضارة العربية الإسلامية الطويلة الأمد، ولم يخرج أحد طوال هذه القرون ليحرّم الموسيقى، وإن كانت هناك أصوات تقول بذلك لم يُلتفت إليها في السياق العام، فقد كانت أصواتاً شاذة ونشازاً، وبقيت الموسيقى العربية تتطور حتى عصر الظلام.

نعم، لقد أصيبت الحضارة العربية بسبات طويل وتراكمت على فنونها الأقاويل والمحرمات، إلا أن ذلك هو تاريخ تم التخلص منه تدريجياً منذ قرنين، فكتاب فيروز كراوية المعنون "كل ده كان ليه" الصادر عام 2022 يؤرخ لتطور الموسيقى والأغاني العربية والمصرية، حيث نقرأ عن نهضة موسيقية عربية انتعشت مع نهاية القرن التاسع عشر، بداية عصر التنوير العربي، ونضجت في السنوات الأولى من القرن العشرين، ثم أتت أُكلها في النصف الثاني منه. وقد استخدمت الدول الموسيقى والأغاني من أجل الحشد وتعبئة الشعور الوطني، وأصبح المغنون والمغنيات ومؤلفو الموسيقى شخصيات عامة ومحترمة، ودخل تعليم الموسيقى في المدارس، وتبنّت الدول جميعاً نشيدها الوطني ومعزوفاتها الوطنية، وأنشأت معاهد عليا لرعاية هذا الفن الرفيع الذي أصبح حتى نوعاً من العلاج. 

الانفصام الحضاري أنه في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين ما زال بعض منا يسأل: "هل أعمل مدرّسة موسيقى أم لا؟" إذا افترضنا أن هناك من سأل، أما إذا كان السؤال مزيفاً ومختلقاً فالطامة أكبر، لأن الشيخ ذاك يكون أراد أن يبيع سلعته التي انتهت صلاحيتها على البسطاء من مريديه، وهي ظاهرة من جملة مظاهر تفسر الارتداد الحضاري إن لم نسمّها انحطاطاً حضارياً، كما يرفض بعضهم الوقوف احتراماً للسلام الوطني أو تحية العلم على اعتبار ذلك جزءاً مما حرّمه الدين! 

إذا استمر تفسير تعاليم الدين من هؤلاء بهذا الشكل المنحرف، فسيعيدنا إلى عصر الظلام، عصر "من تمنطق فقد تزندق" الذي أدخل الحضارة الإسلامية والعربية إلى عصر الظلام. عند ذاك سوف تسود أوهام تستخدم سلاحاً نظرياً لدى بعضهم لتغييب المجتمعات عن العصر وعن الحياة، تحت غطاء التأويلات الشرعية المعارضة للعقل، ذلك الفعل قد يوفر المظلة الشرعية لبعضهم لممارسة السلطة، ولكنه سوف ينقلب عليها في المدى المتوسط، وإن استمرت تلك الأفكار من دون ردع ومن دون قرع الجرس بقوة، فإننا أمام توسع الظاهرة الطالبانية التي تؤسس لتغييب العقل وسيادة الخرافة وخسارة السباق الحضاري، فعلينا جميعاً أن نمنع سرّاق المصحف من المتاجرة به. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من سرق المصحف من سرق المصحف



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon