بقلم : د.محمد الرميحى
كثيراً ما تحيّرني الإجابة عن السؤال البسيط: هل المجتمعات تتطور إلى الأمام أم تتراجع إلى الخلف؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال مهما حاول المتابع سبر غوره، لأن مؤثرات أو عوامل التراجع أو التقدم كثيرة: منها الاقتصادي ومنها النفسي، ومنها المصلحي، ومنها الاجتماعي، ومنها الثقافي ومنها تأثير العولمة.
السؤال حول المرأة المسلمة بالذات وموقعها في المجتمع، فكما يبدو هي اليوم في بؤرة الصراع الاجتماعي، وبخاصة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، من الكويت إلى أفغانستان مروراً بإيران وانتهاءً بالشمال العربي الأفريقي تونس والمغرب، ذلك على سبيل المثال لا الحصر، رغم وجود منظمة دولية عربية مسجلة في الأمم المتحدة هي "المنظمة الدولية لتمكين المرأة" الفقرة الأولى من وثيقتها تقول: "الحرص على إنهاء جميع أنواع التمييز ضد جميع النساء وتعزيز المساواة بين الجنسين على المستويات كافة، والقضاء على جميع أشكال العنف والممارسات الضارة".
في الكويت تقدم بعض أعضاء مجلس الأمة باقتراح أن يتم الفصل الكامل والنهائي بين الطلاب والطالبات في الدراسات الجامعية المختلفة، عطفاً على قانون قديم لم يُفعل، بصرف النظر عن التكلفة المالية وعن الواقع الذي يعيشه المجتمع الكويتي، وهو مجتمع تاريخياً متسامح ومنفتح، وبعد سبعين عاماً من قصة مشهورة قامت فيها فتيات الكويت في ذلك الزمن المتقدم بحرق عباءاتهن في وسط مدرسة بنات ثانوية تعبيراً عن المطالبة بالمفارقة مع تقاليد سابقة، بعدها خطت المرأة خطوات كبيرة في العمل والعلم، إلا أن ذلك التقدم لم يقطع مع الماضي، وتعود فكرة عزل المرأة مرة بعد أخرى، وهي اليوم تغشى الأسواق وتعمل في المؤسسات الحكومية والخاصة، وتعمل محاضرة وطبيبة وشرطية. تلك المطالبة جعلت من البعض يسخر بالقول يجب أن نحصل على طائرات بطبقتين واحدة للرجال والثانية للنساء!
هذا التناقض نجده صارخاً في أفغانستان التي قررت حكومتها أخيراً منع المرأة من التعليم الجامعي على أساس أن الإسلام الذي تفهمه "طالبان" يدعو إلى ذلك! خطوة أثارت غضب العالم لأنها مفارقة للعقل السليم، في الوقت الذي يدعو صحيح الإسلام إلى وجوب تلقي العلم للمرأة والرجل، أيضاً قبل سبعبن عاماً أو أقل كانت المرأة الأفغانية تشارك الرجل مهامه في خارج المنزل، فكانت طبيبة ومعلمة وعاملة في متجر، من يراجع صور المرأة الأفغانية وقتها يرَ أنها كمثل أخريات في الدول الغربية في مظهرها ومخبرها.
وتستمر من جهة أخرى ثورة المرأة الإيرانية، ليس على الحجاب فقط، كونه شكلاً من أشكال اضطهاد السلطة، ولكن على مجمل السلوكيات التي تريد المجموعة الحاكمة فرضها أولاً على المرأة وثانياً على الرجل من أجل الهيمنة، وما الحجاب إلا رمز لقمع المرأة الإيرانية التي تريد التحرر منه ومن مجموع ما فرضه على المواطنين من قهر. والملاحظ أن النظام بدأ يتساهل في فرض الحجاب في الأماكن العامة، ربما كجزء من عملية تكتيكية لامتصاص الغضب الشعبي، إلا أن المؤكد أنه اعتراف ضمني بأن الحجاب ليس له علاقة بصلب تعاليم الإسلام.
على مقلب آخر، فإن المجتمع التونسي الذي مرت عليه سنوات طويلة فخوراً بتحرير المرأة التونسية من قيود الماضي، إلى درجة أن المرحوم بورقيبة اختار أن يكتب على باب قبره "هنا يرقد الزعيم بورقيبة محرر المرأة التونسية"، وبعدما ضمن دستور 2014 مناصفة المرأة والرجل في العمل السياسي وجميع النشاطات الإنسانية، يأتي الدستور الأخير دستور عام 2022 خالياً من ذلك النص، ولم يتقدم لانتخابات كانون الأول (ديسمبر) 2022 (على علاتها) إلا قليل من النساء التونسيات اللواتي لم يرق لهن هذا التقهقر في حرياتهن السياسية.
ماذا يجمع كل تلك المظاهر؟ يجمعها التفكير الأعوج في أن (المرأة ناقصة) يجب أن تفرض عليها الوصاية، وهي فكرة مفارقة للزمن، وحتى لاجتهاد عقول المسلمين وتجاهل لقاعدة شرعية تقول إن "العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً"، بمعنى أنه إذا كان هناك حكم فرضته أسباب معينة وزالت تلك الأسباب أو حلت أسباب أخرى يزول الحكم، وحكم إقصاء المرأة سببته ظروف معينة في زمن معين مضى عليه أكثر من ألف عام، ولم يعد السبب قائماً، لقد حكمت المرأة في عدد من الدول الإسلامية، منها باكستان وتركيا وبنغلادش، وأصبحت رئيسة وزراء وقاضية وأستاذة، بل جاء من النساء المسلمات من كانت رئيسة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما لو كان الإسلام ينص على عزل المرأة لما كان قريباً من تونس، يناقش البرلمان المغربي مبادرة ملكية تتجه إلى إنصاف المرأة المغربية وجعلها شريكة مناصفة مع الرجل في كل النشاطات الإنسانية، في خطوة تعيد خطوات بورقيبة قبل نصف قرن تقريباً في تونس، ولكنها، وهو الأهم، تضع المجتمع المغربي في مكان متقدم من التنمية.
وأيضاً تتقدم مشاركة المرأة في المملكة العربية السعودية في العمل وإدارة المنشآت الصناعية والتعليمية، بل في العمل الدبلوماسي والشرطي، وقد اعترضت حكومة المملكة العربية السعودية على حكومة "طالبان" في كابول على المنع الأخير لتعليم المرأة الأفغانية في المؤسسات الجامعية العليا.
سيظل سؤال المرأة وحقوقها ودورها في المجتمع يراوح بين تفسير محافظ للإسلام لا يعنيه تطور الزمن، وتفسير منفتح للإسلام يتفهم تطور المجتمعات، ولن تخرج المجتمعات من هذا المأزق إلا بعد أن تصل إلى قناعة بأن موقع المرأة في المجتمع ودورها يجب أن يخرجا من الدين إلى المجتمع، فلا العفة مشروطة بعزل النساء ولا بشكل بملابسهن، أو بعزلهن عن التعليم الحديث، كل ذلك تراث كان مقبولاً في ظل تطور اقتصادي اجتماعي معين، أما وقد تطور العالم والمجتمعات، وأصبحت بحاجة إلى كل أفرادها، فإن العزل والتهميش، وبخاصة تينك العزل والتهميش اللذين يغطيان بأنهما إسلاميان يجب كشفهما ومناقشتهما، فالمرأة إنسان قبل أن تكون سلعة وعضو في المجتمع، بل عضو فعال قبل أن تكون شيئاً، فلا يستطيع مجتمع أن يتقدم ونصفه مشلول، كما أن تعليم المرأة وتحصين كفاءتها وشخصيتها يخدمان إيجابياً الجيل الذي ترعاه في المنزل أو خارجه.
من المحتم التعامل مع مظاهر تعطيل المرأة وحجبها عن المشاركة في الشأن العام على قدم المساواة على أنه خطر داهم على المجتمع في حاضره ومستقبله، وهي دعوات يجب استنكارها.