بقلم : د.محمد الرميحى
لم يبقَ في قاموس الشتيمة السافرة والمبطنة والغاضبة من كلمات لم تستقدمها السيدة روبيرتا متسولا رئيسة البرلمان الأوروبي إلا وكالتها لتلك "القوى الظلامية الهمجية التي تريد هدم الديموقراطية الغربية"! السبب أن ايثيا كلي، إحدى نائباتها والأخيرة من الجنسية اليونانية (لدى الرئيسة 14 نائباً ونائبة)، وجدت الشرطة في منزلها كمية من الأموال قيل - في الإعلام فقط من دون حكم قضائي - إنها أموال مقدمة من إحدى دول الخليج!
السيدة روبيرتا اعتبرت أن تلك الدول "شمولية" معادية للديموقراطية، ولم تترك، كما قالت، لا جماعات ضغط ولا اتحادات مهنية ولا أفراداً إلا وقدمت لهم رشى، وأن ذلك هجوم على الديموقراطية الأوروبية! الشرطة البلجيكية في بروكسيل (أحد مقار اجتماعات البرلمان الأوروبي) استولت على عشرات الكومبيوترات من داخل البرلمان ومن خارجه في حملة لمتابعة المرتشين، وللعلم، البرلمان الأوروبي يضم 27 دولة ويتكون من 705 أعضاء موزعين على تلك الدول، وهو واحد من ثلاث مؤسسات رئيسية (المؤسسات سبع) يشارك في اتخاذ القرار، وهو أقل تلك المؤسسات أهمية لأنه يقترح السياسات ولا يتخذ قرارات.
المتهمة اليونانية نفت أن تكون مرتشية، كما أن صديقها ومساعدها هو أحد أعضاء مجموعة "محاربو الحصانة"، وهي مجموعة ضغط تسعى الى تمكين المؤسسات الرقابية من مراقبة الأعضاء في البرلمان! كما أن الدولة المتهمة (قطر) نفت نفياً قاطعاً ما نسبته الصحافة اليها من اتهامات.
قالت أيضاً السيدة الرئيسة إنها ستوقف دراسة السماح لمواطني قطر والكويت بالحصول على حرية دخول دول الاتحاد الأوروبي من دون فيزا شنغن.
واضح الخلط الشديد والتسييس المغطى، ربما، بشيء من العنصرية ضد دول الخليج من جماعات داخل البرلمان الأوروبي، وكانت فرصة النفخ في القضية المثارة الى آخر نفس إعلامي من أجل خلق بالون تنشغل فيه الصحافة ويعبئ الرأي العام الأوروبي ضد تلك الدول. من جانبه قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عشية عودته من قطر "لننتظر ما يقوله التحقيق والقضاء في هذه المسألة"، في إشارة الى شجب تسرع الرئيسة.
لم يمض بعد وقت طويل على قرار مجلس الوزراء الأوروبي (وهو الأكثر أهمية في اتخاذ القرار) الذي اتخذ في حزيران (يونيو) 2022 (أقل من نصف عام) في الموافقة على وثيقة للشراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي التي أخذت وقتاً طويلاً في المناقشات والتقصي، وهي شراكة استراتيجية متنوعة لفائدة الطرفين الخليجي والأوروبي على السواء. أهداف تلك الوثيقة واضحة وهي التنسيق في السياسات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين الكتلتين وتذليل أي عقبات أمام التعاون المثمر.
السيدة الرئيسة تعرف علم اليقين أن هناك وثيقة يتطلب العمل من خلالها التواصل المشترك، كما تعلم، من جهة أخرى، أن هناك "لوبيات" معروفة ومرخصاً لها تعمل بجوار أي مؤسسة سياسية في أوروبا، من جماعات الضغط الى الشركات والدول التي تتابع مصالحها، بما فيها البرلمان الأوروبي تبدأ من شركات التبغ و الخمور، إلى شركات السيارات والتقنية الحديثة، وكلها تهتم بأن لا تتخذ في تلك المؤسسات توصيات تضر بمصالح تلك المؤسسات والشركات.
اذن، الاتصال من خلال مكاتب معروفة ومعلنة بأعضاء البرلمان أو أعضاء المؤسسات الرئيسية في بروكسيل متاح ومعروف ومعلن للجميع وقانوني.
يبقى إن خرج أحد أعضاء أو مجموعة أعضاء من العاملين في تلك المؤسسات عن الأعراف المتبعة فمن يلام هو نفسه بعد حكم قضائي، لا غيره من القوى التي يحق لها قانوناً الدفاع عن مصالحها.
الغريب أن توقيت الضجة جاء مع توقيت مونديال قطر الناجح، وأيضاً سرب شيء من ذلك القبيل ضد المملكة المغربية في الوقت الذي وصل فريقها الكروي الى ربع النهائي. التوقيت هنا ملتبس والتسرع في الاتهام أكثر التباساً.
تلك اللهجة القاسية واستخدام تعبيري "دول شمولية" و"هجوم على الديموقراطية الغربية"، يكشفان عن قلق ينتاب بعض أعضاء تلك المؤسسة وإدارتها وينفثان ذلك القلق على آخرين بدلاً من محاسبة من أخطأ إن كان ثمة خطأ قد ارتكب.
الدرس الذي يتوجب أن يستفاد منه في هذا السياق هو أهمية العمل المشترك والمنسق بين دول مجلس التعاون تجاه الآخرين للدفاع عن المصالح المشتركة، فرغم الادعاء أن هناك دولة واحدة قدمت الرشوة المفترضة، فإن خطاب الرئيسة لم يتوانَ عن جمع أكثر من دولة خليجية للتصويب عليها كما جاء في صريح الخطاب.
عدم رفع قيود فيزا شنغن عن المواطنين في دول الخليج لا يضر كثيراً أولئك المواطنين الذين أمامهم خيارات أخرى متاحة، الضرر الأهم واقع على اقتصاد الدول الأوروبية وهي الآن تعاني من تضخم غير مسبوق، ومشكلات اقتصادية تدفع مواطنيها الى الشوارع للاحتجاج.