بقلم : د.محمد الرميحى
في الأول من شباط (فبراير) 2012 وخلال انعقاد مجلس الشعب المصري، قطع النائب السلفي محمود إسماعيل الجلسة ونادى بالأذان للصلاة بصوت مدوٍ. رئيس المجلس سعد الكتاتني وهو من "الإخوان" وبّخ إسماعيل بشدة، وقال له: "يوجد مسجد، هذه القاعة للمناقشة". القصة معروفة على نطاق واسع، فنحن في عصر الكل يريد أن يقول إنه أكثر إسلاماً من غيره! فيذهب الى المزايدة، ويسير آخرون خلف تلك المزايدة اعتماداً على مقولة تراثية في "حكم إنكار المنكر" أي إذا تم منكر فإن وجدت أن إنكاره يسبب ضرراً عليك أو لا يُقبل منك، عليك السكوت أو الموافقة عليه.
موقعو الوثيقة من المرشحين في الكويت، بعضهم يقع في "مسايرة المنكر" لأنه يشعر بأنه إن لم يوقّع فسوف يشكل ضرراً عليه، وبعضهم يقع في شريحة "ذلك مبلغهم من العلم" وآخرون لا يعدون في الغالب أن يكونوا مسايرين.
فقط في المجتمعات القمعية يُحشر الناس في دائرة ضيقة من الأوامر والنواهي، وفي الذهن مجتمعات معاصرة كثيرة، على رأسها، وإن اختلفت الأيديولوجيا، بلاد مثل كوريا الشمالية، حيث يصب المواطنون في قالب واحد، تنتفي معه إنسانية الإنسان، والثاني أفغانستان "طالبان"، حيث يُحشر الناس في قواعد يعتقد أهل السلاح من القابضين على السلطة أنها السلوك القويم... أيديولوجيات مختلفة في الشكل العام مشتركة في المضمون.
الوثيقة في الكويت هي رأس جبل الثلج، وآخر معارك الإسلام الحركي في المنطقة، إذ تم العمل على قضم الحريات العامة في الكويت تدريجياً مع الوقت، فانتقل البلد المنفتح والمجتمع التجاري البحري تدريجياً من الانفتاح الى الانغلاق. قادت ليبرالية عبد العزيز حسين وأحمد العدواني، وكلاهما أزهريّ، المشهد، كما فارقت أفكار عبد الرزاق البصير وأحمد البشر الرومي الساحة، وذبلت جهود الشيخ جابر العلي، القارئ المنفتح في تطوير الفن ورعاية الثقافة في منصة القرار، واختفى أي أثر لعبد الحسين عبد الرضا وسعد الفرج، وجاسم النبهان وسعاد العبد الله، وذهبت ألحان أحمد باقر معه إلى القبر، ولم يُسمع أي صدى لإبداعات صقر رشود وعبد العزيز السريع، واختفت ابتكارات سامي محمد وفهد الهاجري، والأصوات الشجية لعوض الدوخي وعبد العزيز المفرج، ولم تعد تطرب بسبب اخراج الغناء عن "الحلال". كل هؤلاء لم تعد ذكراهم تطفو على سطح الثقافة، وفقط من أجل تسمية البعض. ذلك القضم التدريجي أوصل المجتمع الى أن يتساوى عنده انتاج وزارة الاعلام والثقافة مع وزارة الأوقاف! وتحولت الأولى رديفاً للثانية!
لقد طوردت الكتب بسبب عبارات منقطعة عن سياقها، وصار السباق في مضمار من هو منا أكثر اسلاماً، في الوقت الذي يقرأ العالم ما يريد من خلال الشبكة العالمية.
هذا المسار التراكمي كان بتحالف أو بتخاذل بعض من هم في السلطة، سواء التنفيذية أو التشريعية، كما لعب المال، وبخاصة المؤسسات المالية التي تنتج وظائف وأعمالاً للمستفيدين، دوراً من أجل تغذية ذلك التوجه وإكثار التابعين، وتحوّل التعليم الى ضخ أساطير مقرونة بجاهلية حديثة في عقول جيل أو أكثر من أجل السيطرة والتحكم. وحدثت عملية ضخمة لكتابة الماضي، مشوهاً، من أجل التحكم في المستقبل، في غفلة من المجتمع.
ووصل المجتمع الكويتي لهذه السوية حيث انطبقت عليه المقولة التي راجت لدى الألمان عشية الحرب العالمية الثانية لتفسير سيطرة النازية، وصبّ المجتمع الألماني قسراً في قالب واحد، تقول: "جاءوا الى الغجر فصرخوا، فلم يسمعهم أحد، ثم جاءوا إلى اليهود فصرخوا فلم يسمعهم أحد، و أخيرا جاءوا إليّ فصرخت، فلم يعد أحد يسمع الصراخ". تلك الفكرة تعبير متداول يفسر قضم الحريات التدريجي تحت مسميات يرى كثيرون أنها محقة من دون مناقشتها.
المجتمع الكويتي مجتمع مدني بالضرورة بدليل أنه يعمل ويعيش تحت مظلة قانونية حديثة اسمها الدستور، وهو، أي الدستور، يؤكد المساواة بين المواطنين، فكيف يمكن عزل المرأة وحرمانها من مواطنيتها، أو تعليمها المشترك في عصر الهاتف النقال؟ كما أنه مجتمع تعددي يقبل بين جنابيه جميع الاجتهادات السلمية، ولا يقتصر على سيادة اجتهاد واحد.
الحملة المضادة لوثيقة القيم، بجانب نقدها المحق أن القيم في المجتمع ليست واحدة. هناك قيم كثيرة يمكن أن تتبنى من المجتمعات إن كان لذلك ضرورة، وتلفظ أخرى، فأهلنا في السابق مثلاً كانوا يخفرون الفتاة وتمنع من الخروج، فلا ضير اليوم أن تسافر وتعمل... كانوا يتعففون من طلب بيت حكومة، واليوم هناك طوابير تنتظر، وكذلك في الملابس والعادات التي تتغير بتغير الزمن، فهناك سلوكيات جديدة تفرضها تغيرات في الثقافة. في مجتمع الكويت شرائح كبيرة تسافر الى أركان الدنيا سنوياً وتشاهد المتغيرات.
من يرى أن ربط القيم بشكل عام بثوابت اجتماعية هو بالتأكيد مخطئ لأن الزمن يتغير وحاجات الناس تتغير أيضاً، تلك الحملة المضادة أيضاً تدل على وعي المجتمع المدني، إلا أن قصورها في نظري هو التركيز على الآنية من دون النظر الى الطابع المعقد والمركب الذي تسير فيه مثل تلك الدعوات، فقد ترك العمل التربوي والتعليم لفترة طويلة في أياد كانت مؤدلجة واستمرت لسنوات في ضخ أفكار ومقولات لها طابع الحط من قدر المرأة والاستخفاف بقيم المجتمع المدني وفرض "الإسلام الصحيح" كما يفهمونه، وساعدهم جو عام في المنطقة وظروف دولية معقدة، ووفرة مالية وإهمال مجتمعي لأولويات تجويد التعليم.
في الوقت الذي تتخلص مجتمعات حول الكويت من أثقال فترة طويلة ومنهكة من المراوحة في المكان، يصحو المجتمع المدني الكويتي على صدمة الوثيقة، ولأنه مجتمع حيوي فقد استنفرت قواه الحية لمعارضة تلك الوثيقة وإدانة الفكرة القائمة عليها، وهي الوصاية على المجتمع، إلا أن ذلك لا يكفي من دون معالجة الجذور، وهي التصميم على النظر الجاد في برامج التعليم والإعلام والثقافة التي تستحق أن توضع على أجندة المجتمع المدني بكل اجتهاداته وفرز الصالح فيها من الطالح.