نشر الأستاذ عبد الله بشارة في مقالته الأسبوعية في "القبس" الكويتية يوم 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 ملخص قراءته لمذكرات عبد السلام جلود الذي كان يشار اليه بالرجل الثاني لفترة طويلة في "الجماهيرية الليبية العظمى"! عنوان المقالة يمثل موقف بشارة من المذكرات وعصرها، فقد كان العنوان "مذكرات جلود... والحماقة الثورية". بعدما استعرض المذكرات ولخص جانباً منها انتهى الكاتب الى تساؤل نصه: "كيف بقي هذا النظام الهدام أربعين سنة يحكم فيها الشعب الليبي وفق ما يريد؟".
السؤال الذي طرحه بشارة في آخر مقاله هو سؤال القرن المركزي في المسيرة السياسية العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ليس في ليبيا فحسب، ولكن أيضاً في عدد من الدول العربية منها العراق ولبنان واليمن تونس، ربما أغلب الدول العربية، لكنه سؤال يحتاج الى فرق من الدارسين لمحاولة الإجابة عنه، اذ تركت تلك "النخب الهجينة" بصماتها السلبية على المشهد العربي السياسي والاقتصادي والتنموي حتى يومنا هذا.
من الصعب وضع اليد على عامل واحد لجيل الأوهام أو جيل الحماقة، لعل أحد أسبابها وصول العسكر الى السلطة، فالدولة العربية بعد الحرب الأولى على مختلف أوضاعها اهتمت بتنظيم شيء واحد هو العسكر، وأرادت أن يكون ذلك العسكر ذراعاً لها في دعم الحكم المركزي شبه الاقطاعي، إلا أن ما كان وسيلة للضبط أصبح بعد وقت يداً للضرب وأول ما ضرب الحكم القائم.
وتحت شعارات مختلفة ورنانة وصل العسكر الى الحكم، ومرّ على المنطقة العربية حين من الدهر، على الأقل لجيل كامل، يتوقع "البيان الأول" حتى قيل بمرارة إن أول من يصحو من النوم من العسكر، يذهب بدبابة الى الإذاعة لإذاعة البيان الأول!
جزء من حكم العسكر ما أفرزه قيام الدولة الإسرائيلية من ردود فعل شبه ثأرية، حتى أن المفردة استخدمت لبعض المنظمات السياسية العربية الأولى، وعند الحديث عن الثأر يبرز المعنى العشائري للفكرة، فالزمن كان زمن تنظيم وعلم حديث، وليس زمن ثارات.
فشل العسكر في ساحة الحرب تلك المتعددة الاشتباكات دفعهم الى وضع اللوم على الأنظمة، وهكذا جرت سلسلة من الانقلابات في العواصم العربية، ولم يكن السؤال هل يقع انقلاب عسكري في هذه العاصمة أو تلك؟ ولكن كان السؤال متى؟
العسكر بتدريبهم لم يكن لديهم الكثير ليقدموه لشعوبهم، في الغالب استخدموا الأدوات نفسها التي كانت تستخدمها السلطات السابقة مع إضافة شيء جديد ومهم، فلخوفهم من الانقلاب أضافوا عاملين: الاستخبارات الشرسة على الناس، ومعها انخفاض شديد في سقف الحريات الى درجة تلاشيها، وأي منصف في قراءة تاريخ الأنظمة السابقة للأنظمة العسكرية العربية سيصل الى حقيقة أن الحريات النسبية العامة كانت أفضل نسبياً قبل وصول العسكر. صحيح أنها لم تكن العصر الذهبي، ولكن مقارنة بما جرى لاحقاً كانت بالتأكيد افضل، بعدما حول المجتمع من الموافقة الى الإذعان وتم إبدال التجيير بالتعليم.
فالصحافة المصرية كانت في بعضها تمجد "المليك المعظم" وأخرى تنشر صور مجموعة حفاة في الشارع وتعنون رأس صفحتها بنص يقول: "هؤلاء رعاياك يا مولاي"! وفي العراق يحاول الملك فيصل الثاني أن يكون رساماً ويزين له مرافقوه إقامة معرض لرسومه، فيأتيه وابل من النقد في الصحف فكفّ عن فعل ذلك لاحقاً. أما إدريس السنوسي في ليبيا فقد كان يسمع في التظاهرات "إبليس و لا إدريس"! ذلك الفضاء السمح نسبياً والذي كان من الممكن أن يتطور انتهى تحت مقولة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولم تحدد المعركة بالضبط! وانتهت المجتمعات تلك بحكام ظلاميين جهلاء ومستبدين، الى درجة أن عدي ابن "القائد الضرورة" يقتل فتاة بطلقة في رأسها في حفل عام، ثم يأمر الجميع بأن يكملوا السهرة وكأن شيئاً لم يكن!
على صعيد آخر صُفي أكبر عدد من المثقفين العرب إما باسم الفتوى الثورية أو الدينية، وكانت سلسلة طويلة لا تبدأ فقط بحسين مروة وفرج فودة ولن تنتهي بلقمان سليم!
كان من الطبيعي أن تتراجع الحريات وينتشر الخوف من إبداء الرأي، ويقدس الزعيم ويرفع الى درجة تفوق الملائكة، في الوقت نفسه تنتشر الخرافة ويصبح بول البعير للبعض دواء ناجعاً بأفضل من كل دواء، كما يصبح أكل لحم الحوريات حلالاً! إلى جانب كم هائل من الخرافات التي شوهت عقل العربي وأدخلته في نفق لا نور فيه، وسادت إلى درجة أن نقد رجل دين هو بمثابة نقد الرب جل جلاله، والأول شخص محدود الثقافة وفي الغالب متكسب، وهي ماكينة هائلة سيطرت على العقول وسخرتها.
تاريخ العالم وتجربة المجتمعات تقول إن اختفت أو تراجعت الحريات فلا أمل في النهوض الحضاري، وأقلها حرية القول والنقاش في كل مناحي الحياة، وعلى رأسها المواضيع السياسية، وما إن تبلى أمة بانخفاض الحريات أو انعدامها حتى تتدهور، ولنا في المجتمعات الغربية الدليل الأوضح، فلم تكن ألمانيا النازية قاصرة في العدة والعتاد إلا أنها كانت فقيرة في الحريات فانهزمت، وكذلك اليابان في الحرب العالمية الثانية، كانت قدرة شعبها على التضحية فائقة، لكن ما نقصها هو الحريات، فما إن انهزمت حتى انزلت امبراطورها من مرتبة الإله الى منزلة البشر وكفت يده عن السياسة.
ربما بما تقدم أشير إلى بعض الإجابة عن تساؤل بشارة، إلا أن الموضوع لم ينتهِ هناك، فهو لا يزال قائماً، فالسلطات تخيفها الحريات وتستخدم في وأدها ما تم استخدامه سابقاً من خرافات تروج على أنها الدين ويصبح كل من له رأي هو نكرة وكل من لا يقدس الزعيم خائن وجبت تصفيته!
هكذا تخضع الشعوب للحمقى لأنها حملت بالأوهام، ذاك جزء يسير في محاولة إجابة عن سؤال بشارة المستحق.