المجتمع الإيراني ليس حالة خاصة في هذا الشرق الأوسط، حاله حال الجميع تقريباً، يحاول جاهداً أن يلج الحداثة، ولكنه يُعوق في أكثر من مكان، التعويق الإيراني هو الأصعب حيث ركب النظام على "قداسة" أشخاص هم في الواقع غير مقدسين لدى كثير من الإيرانيين! البحث عن الأسباب قد يأخذنا الى تفسير صعوبة التحديث من بين أسباب أخرى، الى مستوى الوعي العام المغموس بالخرافة، من جهة، والقمع، من جهة أخرى، وإضعاف النخب، والأهم فقدان القيادة للمشروع الجديد المتكامل.
في أواخر القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن الماضي اجتاحت إيران ثورة سميت "ثورة التنباك" (الدخان)، أو "المشروعية"، بدأت حينما منح الملك القاجاري ناصر الدين شاه حق بيع التبغ وشرائه في إيران الى شركة إنكليزية حصلت على امتياز احتكاري، وكان نحو 20 في المئة من المزارعين الإيرانيين يعيشون على تلك الزراعة\الصناعة، مما شكل أزمة للناس.
وصلت الأزمة الى ذروتها حينما أصدر آية الله محمد حسن الشيرازي فتوى بتحريم التنباك، واعتبار كل من يدخنه بمثابة محارب لإمام الزمان (الغائب)، ولأن الشعور الديني المذهبي عميق في الجمهور الفقير في الريف والمدن، حدث الصدام الطويل الذي امتد سنوات وانتهى بشيء من التمثيل الشعبي السياسي (المشروعية) على طراز الديموقراطيات الغربية.
تكرر الأمر قبل انتهاء القرن بصراع بين محاولات الشاه محمد رضا التحديث المتردد وغير الحاسم وبين الجماعات المحافظة. محمد رضا قدم إصلاحات أغضبت شريحتين كبيرتين في المجتمع الإيراني في سبعينات القرن الماضي، إصلاحات اقتصادية اغضبت "البازار" التجار التقليديين، وإصلاحات اجتماعية أغضبت المحافظين وعلى رأسهم رجال الدين، في الوقت نفسه لم يسمح بما يعرف اليوم بالتعددية، بل أنشأ حزباً للدولة سماه "البعث"، كانت معظم قياداته من المتنفذين والمستفيدين من النظام، ولم يتحالف مع النخب الحديثة، بل عزلها، وعندما نضج الشعور بالاستياء، تحالفت القوى الثلاث: المحافظون والليبراليون والتجار ضد نظامه، وقاد ذلك التحالف رجال الدين، واعتقدت الشرائح الأخرى أن رجال الدين هم فقط رأس حربة وسيتركون أمر الحكم لليبراليين والتجار لبناء دولة حديثة، ولكن ذلك لم يحصل، فانتكست الثورة يوم أعلن نجاحها.
اليوم تحدث ثورة من نوع آخر، الأسلوب مختلف ولكن النتيجة المرادة واحدة "تحرير الشعب الإيراني"، وكانت القشة التي "قد تقصم ظهر البعير" هي حجاب النساء، ولعل المتابع يتعرف الى مفارقة تاريخية، فقد كان لبس الحجاب أيام الشاه أو في سنواته الأخيرة مظهراً من مظاهر مقاومة إصلاحاته الانتقائية، وأصبح في أيامنا مظهراً من مظاهر مقاومة الوضع القائم وحكم رجال الدين، ما يقود الى نتيجة منطقية هي أن الحجاب هو "الصاعق" كما كان "التنباك"!
مهسا أميني شهيدة الحجاب التي قتلت في 13 أيلول (سبتمبر) عمرها 22 عاماً، أي أنها ولدت بعد عقدين من وصول المعممين الى السلطة، فهي لم تعرف الزمن الماضي كاملاً، لأن كل برامج التعليم نسفت الى غير رجعة وأصبحت إيران مغموسة بفكر محافظ حتى العظم، هي فقط نظرت الى ما حولها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وقررت أن ترخي "قليلاً" حجابها، والى الآن ذلك يعني التمرد على النظام فهو يحتاج الى قمع حتى الموت، هي رأس جبل الثلج أما بقية الجبل فهي الفقر والبطالة والقمع مجتمعة.
الحجاب، يحاجج كثيرون، ليست له علاقة بصلب تعاليم الإسلام، هو فقط أحد التفسيرات أو الشروح التي وضعت على متن الفقه الإسلامي، كما هو تقليد اجتماعي في بعض المجتمعات، ولم يحدد الإسلام شكلاً من أشكال الملابس للبشر، كان الناس على مر العصور يلبسون ما يشيع في مجتمعهم وفي زمانهم، ويمكن فهم أن الإنسان يلبس ما يروق له من باب الحرية الشخصية، بما في ذلك الحجاب للمرأة، ولكن لا يمكن القطع بأن الحجاب هو متطلب أساسي لكون المرأة هذه أو تلك مسلمة، ولو تم ذلك لأصبحت كل النساء في بلاد المسلمين الواسعة والتي لا تلبس الحجاب بالضرورة خارجة عن الدين وذلك لا يستقيم مع المنطق ولا مع الحياة التي تعاش اليوم.
الحجاب مثل التنباك مثل بوعزيزي في تونس وخالد سعيد في مصر، وقبلهم جميعاً روز باركس التي فجرت، برفض ترك مقعدها في الحافلة لشخص أبيض ثورة الحقوق المدنية في أميركا، هي صواعق التفجير التي غيرت الموازين، لأنها موازين مختلة الى حد العطب.
في الوقت الذي تشتعل فيه إيران مدناً وقرى في موجة تفجر متكررة، آخرها الأسبوع الماضي، ويقتل الأبرياء ويسحب مئات المواطنين الى السجون، ويزداد الهروب من إيران، يقف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على منبر الأمم المتحدة ليحاضر في العالم عن الظلم وحقوق الإنسان والدول القمعية في مفارقة تذكرك باقوال القذافي: "من انتم"، أو بن علي: "فهمتكم"! أي البعد المغيب عن الواقع، وقراءة واقع متخيل لدى أفراد النظام، بعيداً ممّا يحدث في شوارع مدن إيرانية كثيرة لأيام.
السيدة كريستيان أمانبور المذيعة المشهورة في محطة "سي أن أن" المعروفة ألغت لقاء مبرمجاً مع إبراهيم رئيسي لأنها رفضت، في الوضع الحالي وثورة الحجاب مشتعلة، أن تلبس الحجاب لزوم المقابلة. كانت في ظروف أخرى تفعلها، ولكنها هذه المرة كانت ستبدو كأنها تقف ضد بنات جلدتها (هي من أصول إيرانية).
المرض المزمن في الكثير من دول الشرق الأوسط هو أن النخب الحاكمة تعيش في فضاء افتراضي متخيل وأسهل الأمور لديها أن تُعزو أي تململ لدى الشعب الى أنه موعز له من الخارج أو فئة قليلة ضالة حتى يحين موعد التفجير! قد لا يتغير النظام الإيراني بثورة الحجاب ولكنها لبنة كبيرة في طريق التغيير.