بقلم : د.محمد الرميحى
كارثة كبرى حلّت في منطقتنا، على وجه التحديد، في جنوب تركيا وشمال سوريا، وكان ضحيتها المباشرة العدد الهائل من القتلى، والحساب لم يكتمل بعد، واستمرت مناظر انتشال القتلى والجرحى والناجين معنا تقريباً طوال الليالي السابقة من خلال شاشة التلفاز، والإنسانية تتحسر من دون أن يكون باستطاعتها رد ما وقع.
المأساة الأخرى التي صاحبت الزلزال هي ضعاف النفوس الذين حاولوا أن يستفيدوا من الحدث الجلل، إما شخصياً أو سياسياً. الشكل الشخصي هو الأقل أهمية والسياسي هو الأعظم أهمية.
أشكال من الاستفادة الشخصية كمثل المجاميع التي هجمت على المحال التجارية والمنازل المهجورة، مستفيدة من الفوضى المصاحبة للزلزال العظيم كي تسرق ما تيسر، من المأكولات إلى الكماليات والأثاث، وقد شاهدها العالم على محطات التلفاز صورة وصوتاً، أما السرقات الأخرى فقد تكوّنت من عصابات تتبعت بعض سيارات الإغاثة واختطفتها إلى مخازن لها معدّة سابقاً، واستولت على ما حملته من مساعدات طبية أو عينية كي تبيعه في السوق، كما نشطت عصابات جمع المال على وسائل التواصل الاجتماعي مستفيدة من العاطفة الجياشة لدى الناس تجاه الضحايا، فقدمت أنفسها على أنها من المنقذين للمنكوبين، وذهبت تبرعات الناس البسطاء في الغالب في جيوبها كما رأينا في وسائل التواصل الاجتماعي التي فضح بعضها تلك الظاهرة المخزية.
إلا أن السرقة الأكبر هي السرقة السياسية، وهي ربما محاولة ترقى إلى أن تكون كمثل سرقة القرن، وتفاصيلها أن هبّت مجموعة من مناصري نظام الأسد في دمشق، داخل سوريا وخارجها، للقول إن التأخر في إنقاذ الناس من تحت الأنقاض في الشمال الغربي السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام هو بسبب العقوبات المفروضة على سوريا! واكبت تلك المقولات جوقة تعزف على ذلك النغم مستفيدة من تغييب الحقائق، من أجل خلق رأي عام يميل إلى تصديق فكرة أن التأخير، وبالتالي موت الناس، جاء من العقوبات وليس من موقف النظام. ذلك أمر يحتاج إلى مناقشة وتفنيد.
الحقائق على الأرض تقول إن مركز الهزة كان في الأراضي التركية. تلك حقيقة، ولكن غالب من يسكن المنطقة الجنوبية في تركيا، وبخاصة في بلدات هاتاي وكليليس وغازي عنتاب، وهي المناطق الأكثر تضرراً، هم من المُهجّرين السوريين قسراً، وقد هاجروا بسبب بطش النظام بهم وبأسرهم، كما أن معظم السكان المصابين بالكارثة في مناطق سوريا المحررة هم من طاردهم وطردهم النظام من بلداتهم ومنازلهم، بل ولحقهم في مناطق اللجوء بالكيماوي والبراميل المتفجرة، ما أضر بالكثير من المنازل والبنايات التي التجأوا إليها وقد أقيمت على عجل لإيوائهم.
لعل التذكير بموقف روسيا منذ أشهر في مجلس الأمن واجب هنا، عندما أصرت على عدم تجديد فتح ممر باب الهوى، وهو الممر الوحيد الباقي بين تركيا وشمال سوريا، بدلاً من عام كامل إلى ستة أشهر فقط، وإقفال كل الممرات الباقية للوافدين من جنوب تركيا إلى شمال سوريا.
أي أن هناك حصاراً مضروباً على تلك المجاميع البشرية التي ضربها الزلزال. وحتى يمكن أن تصل إليها المساعدات من وجهة النظام السوري ومؤيديه، فهي، أي المساعدات، لا بد من أن يكون لها ممر إجباري هو رسملة النظام السوري بالاعتراف به، وتجاوز فظائعه في البشر، ورهن بلاده لقوى خارجية قريبة وبعيدة على حد سواء. وبالتالي ماطلت السلطات السورية في فتح باب المساعدات الواردة من الخارج للمناطق الأكثر حاجة ويقطنها مواطنون سوريون عزل!
هنا السرقة الكبرى. يريد ذلك النظام ومؤيدوه من المتعصبين ضد الإنسانية أن يستفاد من هذه الكارثة بتعويمه، وعلى العالم أن ينسى كل الفظائع الذي ارتكبها ذلك النظام والمجازر التي كان ضحيتها الإنسان السوري، سواء قتلاً أم سجناً أم تشريداً، وإباحة الوطن للأغراب.
لأن البشرية والإنسانية ليستا بتلك القسوة، فقد أُعلن رفع جزئي للعقوبات مع أنها أصلاً لا تشمل المساعدات الإنسانية، ومع إعلان الرفع الجزئي جاء تصريح الخارجية السورية، وهو بالحرف يقول: "دون رفع كل التدابير (ضد سوريا) والعقوبات بدون قيد أو شرط...". ذلك معناه الواضح أن الحكومة السورية لن تتعاون بإنقاذ مواطنين هم بحاجة إلى الإنقاذ! ذلك ديدن الدكتاتورية: الابتزاز حتى لو كانت حياة الناس في خطر.
هذه المساومة السورية جعلت بعض المرجفين يسارعون إلى رفع الحجر الدبلوماسي، وهو شكلي كما فعل قيس سعيد من تونس. لقد وجد الأخير فرصة لمساندة من يشبهه، ولعل من المهم التذكير بأن آخر زيارة خارجية لدكتاتور آخر هو عمر البشير، الرئيس السوداني الأسبق، كانت لدمشق في كانون الأول (ديسمبر) 2018 فراراً من الضغط الشعبي السوداني الذي بدأ يتكون ضد حكمه، وقد أطيح به بعد تلك الزيارة فقط بثلاثة أشهر (11 نيسان/أبريل 2019)! لعل تلك رسالة إلى السيد قيس!
من الواضح أن النظام الدكتاتوري لا يكترث بوجع الناس، أكانوا تحت قنابله أم تحت أحذية جلاديه، أم حتى تحت صفائح الإسمنت، العجب أن يأتي أناس ما زالت عقولهم ناشطة للدفاع عن نظام كهذا والاصطفاف معه في حملة ابتزاز كبرى، وفي الوقت نفسه يدّعون الإنسانية ويتشدّقون بحقوق الإنسان! سيظل الإنسان السوري مطحوناً حتى يهيأ له نظام إنساني وتشاركي وبلاد محررة من القوى الأجنبية.