بقلم : د.محمد الرميحى
لو امتد العمر بالسيد كارل ماركس، وشهد العصر الذى نعيشه لربما لم يتردد فى وصف حمى كرة القدم التى تنتشر بين شعوب شتى فى العالم، انها اى كرة القدم هى ( افيون الشعوب) الجديد، شخصيا لست من المتيمين بمشاهدة مباريات كرة القدم، ولا اعرف فرقها الدولية او المحلية، وحتى لو شاهدت صور بعض الابطال الكرويين، لا أتبين من هو هذا او ذاك منهم ، ولكنى كمتابع اراقب هذا الهوس الذى هو بالنسبة لى غير طبيعي، يتبنى من كثيرين فى متابعة المباريات الدولية بالدقة التى لايتبناها فى حياته العملية الاخرى، ويقوم بالتعليق عليها، والاختلاف حول نتائجها، ومعرفتهم الحميمة بهذا اللاعب الدولى او ذاك، الى درجة انى رأيت تعليقا لاحدهم يتمنى ان يكون هو المصاب بدلا من نجمه المفضل ! كما اعجب من تلك الارقام الفلكية التى تصرف على شراء هذا اللاعب او ذاك، من اجل المباهاة به فى الملعب على انه خاص بفريق الدولة التى قامت بشرائه، وكانه وعفوا عن التعبير، حصان يجرى فى سباق ، بل ان البعض يبالغ فى الحماس لفريقه الدولى حتى الشجار مع آخرين فى اماكن التجمع ، كالديوانيات فى الكويت مثلا، بسبب هذا اللاعب او ذاك، او هذا الفريق وغيره، انظر الى كل ذلك المشهد وكأنى انظر الى سيرك كبير، و ارى ان الشغف بالملاعب واللاعبين يمكن ان يكون مُعديا، فصديق لسنوات لم يكن يهتم كثيرا بما يحدث فى الملاعب، مؤخرا اكتشفت انه يميل شيئا فشيئا لمتابعة بعض الفرق، و النقاش مع آخرين حول طريقة اللعب ونتاج اللعبة، قلت فى نفسى انه بالفعل افيون، بمعنى انه مهيأ للعدوى وقابل للادمان، فمن كثرة ما سمع من المجالسين، انسحبت عليه لعنة العشق المرضى المتاخرة لهذه الكرة المدورة و بدا (يتثقف) فيها ان صح التعبير، مجاريا القوم حوله . لا انسى شخصيا انى كتبت مرة مقالا فى الصحيفة المحلية فى الكويت فى سبعينيات القرن الماضى، وكان بعنوان (اعطوا للعدوانى ما تعطونه لزغالو) وكان المرحوم احمد العدوانى امينا عاما للمجلس الوطنى للثقافة فى الكويت، وماريو زغالو، مدرب كرة برازيليا اشهر، ومن اصول لبنانية، وكان مدربا للفريق الوطنى الكويتي، والمعنى واضح يدعو الى الاهتمام بالثقافة، كما الاهتمام بكرة القدم، ولكن الامر لم يكن مسموعا لا وقتها ولا اليوم فى كل فضائنا العربى، فالمطالبة فى المساواة بينهم سذاجة اكتشفتها متأخرا !
هل كرة القدم هى (ثقافة الشعوب) الجديدة، وهل هى مكان لصرف الطاقة المخزونة للكتل البشرية، وصرف طاقتها فى اماكن بعيدة عن متطلبات حياتها ؟ ام هى حب مغروس فى نفسية الانسان لمشاهدة (صراع ما) بين فريقين، كما كان يحدث فى ساحات المنازلة فى روما القديمة، بين الوحوش وبين من تقرر اعدامهم، ويصرخ الجمهور حماسا فى الشرفات انتصارا اما للوحش او للانسان الذى استطاع التغلب على الوحش!. كرة القدم بالتأكيد لها وظيفة (اجتماعية) وربما خاصة بتفريغ الشحنات السلبية او بإلهاء الجماهير عن قضايا اكثر جدية، ولها ايضا وظيفة (سياسية) فكثير من السياسيين فى الدول التى تتعاطى العمل السياسى العلنى، يمتطى كرة القدم من اجل المرور بها ومن خلالها الى كرسى النيابة او الوزارة ! مستخدما حصيلة الجمهور المتكون حول النادى الذى ينتمى اليه كقاعدة للقفز الى اعلى، بل ان احد ابطال كرة القدم مثل اللاعب الليبيرى جورج ويا اصبح رئيسا للجمهورية مؤخرا.
فى منطقتنا يضيف الشقاق حول كرة القدم استقطابا سلبيا فوق الاستقطابات الحاصلة،وهو ذو حمولة سلبية من نوع جديد، فقبل سنوات شهدت العلاقات المصرية الجزائرية الوثيقة تاريخيا تنافرا حادا اخرج فيه الطرفان، على الاقل ومن خلال وسائل الاعلام، أسوأ المكنون، و خسرت شركات مصرية بلايين الدولارات كانت تعمل فى الجزائر، فى الآونة الاخيرة فى منطقة الخليج ومنذ اكثر من ثلاث سنوات حدث خلاف بين التنظيم الدولى لكرة القدم وبين الاتحاد الكويتي، فأوقفت الكويت عن المشاركة فى المسابقات الدولية، خلفية ذلك الخلاف ليست ( رياضية) وان بدت كذلك، بل سياسية نتيجة تناحر بين اطراف ترغب فى استخدام هذه اللعبة الشعبية لتطوير موقعها السياسى، وأخذ الموضوع نقاشا طويلا و عريضا، الى درجة ان فقد احد الوزراء منصبه نتيجة غير مباشرة لذلك (الحرد) الكروي، واخير تم الفرج، وقُبلت الكويت مرة اخرى فى الساحة الكروية العالمية، وما ان هدأت العاصفة الاولى حتى هبت من جديد عاصفة جديدة حول من هو الذى سعى لإخراج الكويت من المنع الكروى، وهكذا اندفع المتحمسون الى مكان آخر، وهو تخريب مرضى للعلاقات مع الجوار، و اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعى بما لا تسمح به النفس العاقلة من استخدام لمفردات جارحة، واستقطاب سلبى حاد، ليس على اللعبة فقط، بل وعلى الاشخاص و الدول . وهكذا يمكن للشجار الكروى من جديد ان يفسد العلاقات الودية بين دول ومجتمعات تحمل تقريبا نسيجا واحدا كما هى دول الخليج ! وتواجه من جهة اخرى تحديا ضخما وغير مسبوق فى الجوار.
نقلا عن الاهرام القاهريه