بقلم - محمد الرميحى
كنت في تركيا الأسبوع الذي سبق الانتخابات. جزء من الرحلة للاطلاع عن كثب، ومن خلال أصدقاء، على سير الانتخابات التاريخية، التي سوف تحول تركيا من مسار في الآليات الديمقراطية إلى مسار آخر مختلف يأخذ تركيا في طريق معاكس لجمهورية أتاتورك. مظاهر الاحتياط واضحة للعيان، بسبب الأحكام العرفية، فحتى مداخل الأسواق الشعبية محروسة من رجال مسلحين، وعلى مقربة من أماكن التجمعات تظهر السيارات المصفحة، إلا أن الحياة في العاصمة التجارية الأكبر، إسطنبول، تبدو عادية. لم أحصل على أقوال يقينية حتى قبل أيام من يوم الانتخاب الكبير، عن كيفية سير التصويت أو احتمالاته. أكثر من التقيت اعتقدوا أن جولة ثانية لا بد قادمة بين السيد رجب طيب إردوغان، وربما أقرب المنافسين له محرم إنجه مرشح الائتلاف المنافس، كان لديّ تحفظ عن بعض سياسات السيد إردوغان، الذي نشط في الأيام الأخيرة للفت النظر إلى إنجازاته، إلى درجة أنه حط بطائرته، يصحبه رئيس الوزراء، في المطار العالمي الجديد لإسطنبول، قبل افتتاحه بثلاثة أشهر، لجلب ضوء إعلامي على معلم من منجزاته. تحفظي عن سياسة إردوغان، ليس شخصياً. كانت وما زالت مسطرتي هي فهمي للمصالح العربية العليا، وهنا ورقتان مهمتان وأساسيتان، بجانب أوراق أخرى؛ أولى الأوراق هي العلاقة اللصيقة بالنظام الإيراني. رأيي أن النظام الإيراني (لا الشعب) يلعب دوراً تخريبياً في الجوار العربي من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن، وفي أماكن أخرى أيضاً، وهذا الدور الإيراني، وإن برره الإيرانيون ومناصروهم بعدد من التبريرات، فإنه في نظري، وربما في نظر كثير من العرب، يسير ضد مصالح العرب، خاصة أولئك الذين يرون في التجربة الإيرانية، حتى في الداخل، أنها تجربة فاشلة بكل مقاييس الحياة السياسية الحديثة، أي حكم رجال الدين المطلق. العلاقة التركية مع إيران ملتبسة، فهي معتمدة على تبادل تجاري واسع ومصالح سياسية، الاستفادة التركية منها واضحة، فهي تستورد الطاقة من إيران، وتحول إيران المبالغ التي تحصّلها (في أوقات سابقة من مرحلة المقاطعة الدولية الأولى) قبل الاتفاق النووي عام 2015، إلى ذهب، ثم تحمله إيران إلى دول أخرى وتبيعه لجلب عملة صعبة، تفاديا لقواعد حصرية للمنظومة المصرفية الدولية لمنع التعامل المالي مع إيران، وقد وصل الميزان التجاري الإيراني مع تركيا إلى قمته في عام 2012، إذ بلغ 14 مليار دولار، تراجع بعدها قليلاً، إلا أن المتغير الجديد في هذا الملف، هو إعلان رئيس الولايات المتحدة عن سياسة العقوبات ضد إيران يوم 8 مايو (أيار) الماضي، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. العقوبات سوف تطبق على إيران، وعلى كل دولة أو شركة تتعامل مع إيران، كما ورد في تصريح الرئيس الأميركي، وكان رد تركيا الرسمي بعد ثلاثة أيام فقط من الإعلان، وجاء على لسان وزير الاقتصاد التركي في 11 مايو، أن بلاده سوف تواصل التجارة مع إيران قدر الإمكان، ولن تستجيب لأي كان بهذا الخصوص، وعند انتهاء مرحلة الإنذار التي حددتها الولايات المتحدة في 6 أغسطس (آب)، والمرحلة الثانية في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، فسوف تجد تركيا نفسها بين الاستمرار في التعاطي التجاري، ومن ثم السياسي مع إيران، أو تستجيب إلى مطالب حليفتها، التي يبدو أنها قررت استرضاء أنقرة من خلال عدة طرق؛ إطلاق يدها في الشمال السوري، والسماح بتسليم طائرات حربية متقدمة هي إف 35. العلاقة التركية الإيرانية أكثر تعقيداً من التبادل التجاري، فالدولتان تتشاركان مع روسيا في تدبير، وربما تدمير، المسرح العسكري والسياسي في سوريا، وقد تلجأ إيران، إن استطاعت، إلى عرقلة الجهود العسكرية لتركيا في الشمال السوري والعراقي أيضاً! هذا الملف بديناميكياته، سوف يؤثر في مستقبل العلاقة بين تركيا وكثير من الدول العربية، وأيضاً حليفتها الكبيرة الولايات المتحدة، والمناورة السياسية في هذا الملف لا يمكن أن تستمر طويلاً، بوضع رجل هنا وأخرى هناك، كما تعود السيد إردوغان في ملفات أخرى. الورقة الثانية، التي أتحفظ عن مسارها، هي الموقف (شبه الانتهازي) مع إسرائيل، فقد قررت تركيا سحب سفيرها من واشنطن بعد أن قررت الإدارة فتح سفارة لها في القدس الغربية، بعد أشهر قليلة أعيد السفير! وتم سحب السفير التركي من إسرائيل (سياسياً) مع استمرار وثيق في المجال التجاري! هذه الورقة (فلسطين) تستخدمها كل من تركيا وإيران مناورة من أجل إلقاء كثير من الضباب على الموقف العربي أولاً، ومحاولة استثمار عواطف بعض العرب وبعض البسطاء في ملف لا يحتمل المناورة أو المزايدة! لأنه لعب سياسي في ورقة لها أهمية قصوى لدى العرب. هاتان الورقتان في تحفظي لا تخفيان أخريات، منها الطريقة التي تتعامل معها السلطات التركية مع مخالفيها، وخاصة السلميين، فتركيا اليوم وتحت طائلة قانون الطوارئ، تحتجز أكبر عدد من الصحافيين وأصحاب الرأي خلف القضبان! وهذا يؤسس لمثالب في الديمقراطية التركية! مع التحفظات السابقة، فإن من يقرأ برامج الأحزاب المنافسة، فسيستدعي القول الشعبي الخليجي (احتفظ بمجنونك لا يجيك أجن منه) فتلك البرامج تدعو إلى التطبيع مع النظام السوري، وإرسال المهجرين السوريين (إن لزم بالقوة) إلى بلادهم، فضلاً عن مصفوفة أخرى في السياسة الخارجية، قد تقلب منطقة الشرق الأوسط رأساً على عقب. تقديري أن الذين صوتوا للسيد إردوغان ثلاث شرائح؛ شريحة مؤمنة بسياساته، والثانية ترغب في الاستقرار، والثالثة ربما جزعاً من برنامج المعارضة!
الملفات المستقبلية أمام السيد إردوغان ليست سهلة أو هينة، هي تتمثل أولاً في الاقتصاد الذي يلحظ تراجعاً يظهر في سعر الليرة التركية، كما أن ملف الأكراد، الذي يشكل وصول حزبهم إلى سدة البرلمان، يعد صداعاً لإدارة إردوغان، وفي بعض جوانبه نزيفاً للجهد الوطني، وكان قد سربت أحاديث قبل الانتخابات لمجموعة من حزبه، بمحاولة منع وصول حزب الشعوب (أكراد) إلى البرلمان. وعلينا أن نذكر أن الفوز الأخير، كان بتحالف مع حزب الحركة القومية، وهو حزب يميني قومي تركي، ولم يكن حزب العدالة والتنمية ببعيد كثيراً عن طروحات قومية تركية، بل إن السيد إردوغان نفسه يستخدم عبارات وأفكاراً قومية تركية لتأجيج شعور الأتراك القومي العميق، لا أعتقد أن عاقلاً يقبل أن يعترض على مسيرة السياسة في تركيا من خارجها، يمكن أن يقدم رؤية أو تحليلاً، ولكن الاعتراض واجب على فهم بعضنا من العرب، أن إردوغان وحزبه يمثل (النجاح الأوفى) للإسلام السياسي!، إن صح التعبير، رغم تحفظي عن المفهوم. هذا الاستقبال المرضي لبعض العرب في الأيام اللاحقة لظهور النتائج الانتخابية في تركيا، وتوصيفه بأنه انتصار لآيديولوجيا متكاملة من الإسلام السياسي، يثير عجب العاقل وهو تضليل للعقول وجب التنبيه إليه، فالتجربة التركية، كما ردد إردوغان نفسه مراراً، علمانية المظهر والمخبر، أي تأخذ بالوسائل الحديثة للإدارة في السياسة وفي الاقتصاد والتنظيم، والشعب مسلم، ولا تناقض في ذلك. الإشكالية هي أن يتم خلط الاثنين معا في عقول البعض من أجل الترويج السياسي غير الناضج، وهي من قبيل تضخيم الوهم القائل إن سلطاناً جديداً قادم!! أحد المخاطر الكبرى أن يعتبر السيد إردوغان أن نتائج الانتخابات هي تفويض كامل له، ذلك يؤسس لشعبوية قد تقود التجربة التركية كلها إلى طريق مسدود.
آخر الكلام: الشعبوية السياسية قد تقود إلى نجاح في صناديق الانتخاب، ولكنها تؤسس لشجار مع الجوار قد لا تحمد عقباه.. سلسلة من تاريخ الشعبوية السياسية في منطقتنا تذكرنا بتلك الحقيقة!
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع