بقلم: د. ناجح إبراهيم
لن أتحدث اليوم عن فقه الرجل ولا علمه ولا أنه لم يترك علماً من العلوم الدينية والإنسانية إلا وضرب فيه بسهم، ولا تحويله لدار الإفتاء المصرية إلى مؤسسة ذات منظومة علمية فقهية إدارية رائعة قابلة للتطور المستمر، ولا استقلالها، ولا جمعه الرائع بين فقه الأولين والواقع المعاصر الذى نعيشه، ولا بين جمعه بين الشريعة والحقيقة، وجمعه بين الفقه والإدارة والعلم والمؤسسية والعمل الدعوى والاجتماعى، فهو المؤسس لأهم جمعية خيرية «مصر الخير» ولا ربطه بين زهد العالم وتدينه مع مظهره الجميل ورائحته الزكية ولباسه الرائع، لأن كل ذلك لا يتسع له مثل هذا المقال الذى يتحدث فقط عن فكر العلامة د. على جمعة، الذى يمكن تلخيصه فيما يلى:
رفض عقلية الخرافة ورأى أنها أكبر كارثة ألمت بالعقل البشرى عامة، لأنها أدت إلى منهج الانتحار الذى أنتج التكفير والقتل والاغتيال، كما أدت إلى منهج الانبهار بالآخر الذى أنتج منهج التعدى على مصادر الشرع الشريف الأساسية وإنكار السنة أو الإجماع مثلاً أو تحويل الإسلام إلى لاهوت التحرر أو لاهوت العولمة. وأدت عقلية الخرافة بحسب رأى د. على جمعة إلى منهج أسماه المنهج الماضوى الذى يريد التغاضى عن واقعه ومجتمعه وقضاياه لينزل عليها مسائل فقهية لا تناسبه ولا توافقه ولا تصلحه وقيلت فى واقع وزمن وبيئة مختلفة. ومن أطروحاته الجميلة تفريقه بين الفقه القديم والحديث، حيث إن الفقه الحديث تعامل وفرق بين الشخصية الطبيعية التى تحدث عنها الفقه القديم والشخصية الاعتبارية التى أصبحت واقعاً لا يمكن إنكاره أو تجاوزه ولا تزال تنفصل وتستقل عن الشخصية الطبيعية حتى كمل استقلالها وأصبحت كائناً بذاته. ومنها تفريقه الرائع بين الاجتهاد والاجترار، فالاجتهاد عبارة عن مجموعة من الآليات التى يسلكها المجتهد لإعمال نصوص الكتاب والسنة «أى الجزء الثابت من الشريعة» فى الواقع المتغير.أما الاجترار فهو التعامل مع التراث الإسلامى ككل على أنه ثابت لا متغير فيه، بما فى ذلك الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، فالاجتهاد ظاهرة صحية تؤدى إلى التجديد، أما الاجترار فهو ظاهرة سلبية تعطل مسيرة الاجتهاد والتجديد. وعاب على الشعبية التى اجتاحت العالم كله كمفهوم خاطئ للمساواة، نتج عنها إذابة النخبة وعدم التفريق بين الدهماء والصفوة، فالكل فى النهاية تحول إلى فرد أو صوت «فى صندوق الانتخاب مثلاً» وهذا رجح كفة الكم على حساب الكيف، وأدى إلى تراجع مفهوم أهل الحل والعقد وأولى الأحلام والنهى فى مقابل صوت الأغلبية، فالمساواة الحقيقية لا تعنى التساوى فى كل شىء. وقارن يبن النموذج المعرفى الإسلامى والغربى قائلاً: فى النموذج الإسلامى هناك الفطرة، ولديه مساحة للقداسة، فالقرآن والنبى والكعبة مقدسة عندى بينما يراه الغربى شكلاً من أشكال الوثنية، والغربى ومن على شاكلته يعتبر كل شىء من باب التشيؤ حتى الإنسان هو شىء من الأشياء يطبق عليه الأساليب التجريبية والكمية بلا تحفظ، بينما الإسلام فى نموذجه المعرفى يراه كائناً فريداً مخلوقاً مكرماً. ويرى فضيلته أن توليد العلوم فرض على المسلمين فى كل العصور، و«أن الفتاوى تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الأشخاص أو الحال». ويرى «أنه لا يوجد خلاف حقيقى بين الفقهاء والصوفية فكلاهما نظر إلى الأمر من جهته، وكلاهما صادق فى حكمه ولا تناقض بينهما لأنهما لم يتواردا على جهة واحدة». وقد واجه د. على جمعة مع تلاميذه ظاهرة الانحراف عن التصوف الحق، خاصة ظاهرة الخروج عن الشرع الحنيف بحجة إدراك الحقائق فأطلق صيحته الشهيرة «من تشرع ولم يتحقق فقد تفسق وفسقه أنه جاهل، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق، فالله قد منّ عليه بالحقيقة ولكنه استعمل هذه المنة فى غير موضعها، فالذى ينكر التكليف ويدعى التشريف يكون زنديقاً مثل حال من دعا على موسى وكان يحمل اسم الله الأعظم»، سلام على العلامة د. على جمعة وعلى كل العلماء الذين أضاءوا الدنيا بنور العلم.