تمر هذه الأيام ذكرى ميلاد أستاذ الأجيال «عبقرى القانون الدستورى»، ورمز الوسطية، وابن أعرق الجامعات الأمريكية «هارفارد»، وتلميذ عبقرى الفقه، أعظم المفتين فى تاريخ مصر الشيخ حسنين مخلوف، الذى ما ترك علماً نافعاً إلا وضرب فيه بسهم وافر، إنه العلامة العالمى د. أحمد كمال أبوالمجد، الذى أطلق عليه دوماً «جامع الحضارتين»، إذ استطاع بعبقريته أن يجمع بين أفضل ما فى الحضارة الإسلامية والعربية مع الحضارة الغربية، وهو أعظم دعاة ومنظّرى فكرة الوسطية الإسلامية، التى عاشها بنفسه وغذاها بمشاعره وأخلاقه الكريمة ونفث فيها من روحه النبيلة.
فقد تربى «رحمه الله» على مائدة العلم الشرعى والقانونى فى بيت أبيه القاضى وبيت خاله الشيخ حسنين مخلوف.
ولعلّى بهذا المقال أوفيه شيئاً من حقه وفضله على الإسلام ووسطيته من جهة وعلى مصر خاصة والعالم الإسلامى عامة، وأوفيه حق التتلمذ على يديه وإن لم أستطع ملازمته طويلاً، لكنى استلهمت بعضاً من روحه الجميلة وحنوه مع صلابته وقوته، فهو الصعيدى الذى جمع الصلابة فى الحق والصدع به مع الرحمة بالخلق والعطف عليهم والمودة لهم.
تأمله «رحمه الله» وهو يقول: «هناك مظاهر سبعة لانحراف الخطاب الدينى السائد الآن عن الإطار المرجعى الثابت للدين الإسلامى».
فها هو يهتف: «المتشددون فى كل زمان يصدرون فى تشددهم عن تصور خاطئ لمهمتهم وحدودها.. فهم يتصورن أنفسهم وصاة على الدين وعلى الناس، وهم لذلك فى خوف دائم مقيم من أن التيسير على عباد الله قد يؤدى بهم إلى الخروج على حدود الله وتكاليف الشريعة».
وقد حذر مراراً من الوصاية على الناس: «ينسى أكثر الدعاة أنهم مبلغون وليسوا أوصياء على أحد من الناس.. إذ تظل الطاعة والمعصية أموراً منوطة باختيار الأفراد والمكلفين.. يسألون عنها بين يدى خالقهم الذى علمهم أنه «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ».
ويرى أن التشديد بضاعة قليلى العلم فيقول: «التشديد فى حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل، إذ الأمر كما قال الفقيه الكبير سفيان الثورى: «ليس العلم فى التشديد فإنه يحسنه كل أحد، إنما العلم الرخصة من ثقة»، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، كما يقول النبى، صلى الله عليه وسلم».
ويحث الدعاة على التيسير: «يحتاج الدعاة والخطباء والمتحدثون والمفتون إلى أن يعرفوا معرفة لا شك فيها، ولا مكابرة معها أو جدال، أن شريعة الإسلام قد بنيت على التيسير ورفع المشقة ورفع الحرج، ولم تبن أبداً على التعسير والمشقة والحرج».
ويرى أن بداية انحراف الشباب المتدين هو مبدأ السمع والطاعة داخل الحركات الإسلامية فيقول: الطاعة المطلقة لأمير الجماعة، وقد لا يكون على علم بأحكام الشريعة ومقاصدها، أو دراية بأساليب العمل الجماعى والسياسى، أو تقوى تجعله يتحرج ويحتاط فى أمور الدماء والأموال والأعراض، إن هذه الطاعة المطلقة التى تستند إلى «التبعية» فى المنشط والمكره هى الباب الذى يندفع منه جموع الشباب إلى مصارعهم وإلى إهلاك الحرث والنسل من حولها دون أن تتوقف لتراجع أو تتدبر أو تتساءل.
وأعظم ما قرأته له: «المسلم لا يحتاج إلى شهادة أحد أو وساطة أحد حتى يكون مسلماً، وما عليه سوى أن يؤمن بالله ويصدق برسوله ويشهد بذلك لسانه».
ويحذر من عزلة الشباب المتدين عن مجتمعه فيقول: «انحراف الشباب يبدأ بالعزلة، وفى العزلة يلقنون كراهة الحياة والناس، ويقيمون فى أنفسهم حرباً باردة مع مخالفيهم، وبعيداً عن نور المعرفة وإشراقات السماحة تصدر الاتهامات السهلة بالتكفير على مخالفيهم، وقد تتحول الحرب الباردة مع هؤلاء المخالفين إلى حروب ساخنة، تنطلق فيها فتنة مدمرة».
ويرى أن من أسباب التطرف رفض تجارب الآخرين الإنسانية: «التجربة الإنسانية لا ترفض لمجرد أنها تمت فى أرض غير إسلامية أو تحت راية غير إسلامية، وإن هذا لا يكفى وحده لرميها رمية مسبقة قاطعة بأنها تجربة «جاهلية»، فالحق هو الحق، والحكمة ضالة المؤمن».
ويرى أن «الإسلام لا يضع أصحابه فى صراع مع الحياة، والمسلم الحق لا يكره الناس والدنيا، ولا يقضى عمره فى معركة وهمية مع قواها ونواميسها».
وأن من أسباب التطرف عدم التمييز بين الشريعة والفقه؛ فـ«الشريعة» هى الجزء الثابت من أحكام الإسلام، والفقه هو تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد من النصوص القطعية، وأن الأمة تحتاج إلى فرز التراث من ناحية وتجاوزه من ناحية أخرى: نفرزه لنعرف ما يعد منه إسلاماً، وما يعد من عامة أحوال الناس وظروف الزمان والمكان، ونتجاوزه لأن من حق كل جيل -بل من واجبه- أن تكون له تجربته، وأن يثرى بها النصوص ويثريها بالنصوص غير مقلد وهو قادر على الاجتهاد.
ويدعو إلى عفة اللسان فى الحوار عامة والدينى خاصة: «الحوار حول الدين وقضاياه أجدر وأولى من كل حوار بالتزام عفة اللسان والقلم وصون الكرامة وحسن الظن».
ويرى أن «التطرف ينشأ من الظن بوحدة الحقيقة أو احتكارها، وحدة الحقيقة لا تنفى تعدد زواياها واختلاف العقل فى تفسيرها».
ويرى أنه «لا أمل اليوم فى صحوة، ولا رجاء فى بعث، ولا جدوى من حديث عن تقدم أو تنمية إلا إذا تحركت العقول فى الرؤوس».
وعن الخلط بين التاريخ والدين يقول: «وتاريخ المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا تاريخ أمة من البشر عامر بالخير وبالشر معاً، فإلى جوار أبى بكر وعمر وعثمان وعلى، عاش أبوجهل وأبولهب وأمية بن خلف».