بقلم: د. ناجح إبراهيم
فى مثل هذه الأيام منذ 23 عاماً انطلقت مبادرة منع العنف التى أطلقها بعض قادة الجماعة الإسلامية، كان بيانها مختصراً «وقف العنف من جانب واحد ودون قيد أو شرط، ووقف كل البيانات المحرضة عليه».
لاقت المبادرة صعوبات جمّة ذللها إخلاص الطرفين، ورغبتهما فى طىّ صفحة الماضى، مع رغبة جارفة لدى قادة الجماعة لتغيير فكرها من العنف إلى السلمية.
لم تُفعَّل المبادرة واقعياً إلا بعد أربع سنوات من إطلاقها، واستغرق تفعيلها خمس سنوات بذل فيها الطرفان جهوداً مضنية لا يعرفها الكثيرون، فبعد المحاضرات استغرق نقل آلاف المعتقلين من السجون البعيدة إلى أقرب منازلهم ستة أشهر، وكانت أكبر عملية نقل فى تاريخ مصر، مع جمع الأشقاء ببعضهم، والآباء بالأبناء، وحل مشاكل السجون المستعصية، فضلاً عن الجهود الخارقة المشتركة لتسليم الجناح العسكرى لأسلحته طواعية ودون إراقة دماء، وجولات السجون الفكرية من الوادى الجديد، وحتى دمنهور.
كانت عبقرية اللواء أحمد رأفت أنه لم يطلق وعداً إلا نفذه، واستطاع أن يقنع رؤساءه بإطلاق حريته فى التفاصيل وصياغة تجربة جديدة وغريبة على الطرفين، فلم يمر الطرفان بتجربة سلام ووئام وقرب ومحبة من قبل، وأن يجلس الطرفان على كل المستويات مئات المرات دون تكلف أو ريبة أو تربص أو سوء ظن، وهذا كله لم يأتِ من فراغ كما يظن البعض، ولم يفكر أحد الطرفين أن يخدع الآخر، كما أن المبادرة كانت تتفق مع القانون، فالمعتقلون حصلوا على عشرات الإفراجات القضائية من قبل، والمحكومون خرجوا بعد نهاية مدتهم، ولكن المهم كيفية التعاطى مع تنفيذ القانون.
فلأول مرة فى تاريخ مصر الحديث كان اللواء أحمد رأفت، وهو الضابط رفيع المكانة والرتبة، يقف دون حراسة هو وضباطه بين عدة آلاف من المعتقلين يحدثهم ويحدثونه مباشرة ويخطب فيهم وينصتون إليه، وتقوم بينه وضباطه وبين آلاف المعتقلين مودة ومحبة ومشاركات إنسانية واجتماعية.
ومن حسنات فريق اللواء رأفت أنهم لم يغدروا بأحد ممن سلم نفسه طواعية، مما شجع المئات على تسوية مواقفهم وتسليم أنفسهم من مصر وخارجها.
عبقرية المبادرة فى أنها أول مراجعة حقيقية وذاتية لجماعة كاملة فى تاريخ مصر غيّرت فيها فكرها، قد يقول البعض: قد تراجع البعض عنها، فأقول نعم، ولكن عددهم يُعد على الأصابع بالنسبة لآلاف كثيرة ترسخت فى عقولهم وقلوبهم أفكار المبادرة حتى أصبحت واقعاً لا يستطيع أحد تجاوزه مهما كان، وهى أشبه بمبادرة السلام التى أطلقها السادات وأنتجت كامب ديفيد، فلا تستطيع حكومة فى مصر وإسرائيل تجاوزها أو القفز عليها أو إهمالها، مهما واجهت من صعوبات وعقوبات فى كل السنوات الماضية.
لقد نضجت فكرة المبادرة بعد ست محاولات فاشلة بذلتها الجماعة الإسلامية من قبل، وتعلمت منها الكثير لتنجح تجربتها الأخيرة.
تعلمت من المبادرة أنك حينما تراجع نفسك فإنك دون أن تشعر ستجبر الطرف الآخر على مراجعة نفسه، ولو كان ذلك دون تصريح أو على استحياء أو تدريجياً.
وقد راجعت الدولة وقتها نفسها فى صمت، ومن ذلك على سبيل المثال: أن الطريق إلى السجون كان مفتوحاً للداخل فقط ثم أصبح بعد المبادرة إلى خارجها فقط، وتوقف إهدار الكرامة الدينية والإنسانية للمعتقلين، وتحولت السجون المصرية إلى أفضل سجون المنطقة وإلى جامعة كبيرة للفكر الصحيح.
لقد دخلت التجربة وأنا أظن أننى من مفكريها الكبار، فإذا بى أكتشف أننى تلميذ أتعلم فى مدرسة هى مدرسة السلام والوئام، فعشقت أهل السلام وعرفت مكابداتهم وآلامهم وأنهم لا يريدون أن يصنعوا جاهاً كاذباً على آهات أتباعهم ولا على آلامهم ويُتم أطفالهم، وأحببت كل من ينحو إلى السلام، بداية من المسيح، ومحمد النبى فى الحديبية (عليهما السلام) والحسن بن على والسادات وصلاح الدين.