خطب الجمعة بحماس غير معهود عن بطولات وشهداء أكتوبر، ظل أحد المصلين يبكى من أول الخطبة لآخرها، لم يتمالك نفسه فقد استعاد ذكرياته الرائعة مع الحرب، كان يردد دوماً مثل شقيقى صلاح: ما أحلاها من أيام، يا ليتها تعود ومعها الوئام والسلام والسكينة، لم تسجل جريمة واحدة أيامها.
جاوز السبعين ويجلس أمام الخطيب، يراها أجمل أيام عمره، وآية من الآيات أو هبة من السماء لهؤلاء الأبطال الذين مكثوا أكثر من ست سنوات يعيشون فى خنادق أو ملاجئ أشبه بالأقفاص أو القبور منتظرين لحظة الخلاص.
كان يومها نقيب احتياط يردد: أن العسكرية المصرية هى التى أكسبته الصلابة، فقد كان رقيق القلب يخشى أن يرى الدجاجة وهى تذبح قبل انخراطه فى الجيش.
يتعجب من نفسه كيف يقتحم هذا الشاب الرقيق حصون بارليف الحصينة فيستسلم الجنود الإسرائيليون ليقيدهم ويرسلهم إلى مؤخرات الجيش، إنه لا يكاد يصدق نفسه حتى اليوم، أدرك وقتها أن الجندى المصرى لم يحارب ولم يعط فرصة للحرب فى 5 يونيو 1967.
يرى عبقرية السادات ومعاونيه العسكريين فى اختيار التوقيت فقد كان يوم 6 أكتوبر 1973 يوافق عيد الغفران عند الإسرائيليين، ومهما كانت توجيهات القيادة الإسرائيلية بالتأهب فإن الاسترخاء والشرب كان سيد الموقف، تذكر أنه وجد زجاجات الخمر فى الدشم الإسرائيلية التى قام باقتحامها.
يكرر دوماً إعجابه بالسادات بطل الحرب والسلام الذى نجح فى المعركتين معاً، ولم ينجرف للاستمرار فى الحرب بعد دخول أمريكا بثقلها فى المعركة وعلى الأرض، السادات كان يعرف الخط الفاصل بين الحرب والسلام.
دموعه الغزيرة التى انهمرت أثناء الصلاة جعلت صديقه الخطيب يثنى عليه وعلى ضابط متقاعد مصاب يتحرك بعكازين ويجلس على كراسى المسجد كل جمعة قائلاً: ومعنا فى هذا المسجد بعض هؤلاء الأبطال.
يردد النقيب هانى الدملاوى دوماً: كانت أجمل أيامى، ما قابلت أحداً من أبطال العبور إلا وقال: هى أرجى أيامى عند الله، هى لحظات فارقة فى حياتى.
كلهم يقولون: نسينا كل شىء ونحن نعبر القناة، كلهم يعجب من نفسه: كيف واتته الشجاعة ليعبر والنار تطلق عليه من كل اتجاه، كيف صعد الساتر الترابى، وكيف اقتحم الحصون المنيعة.
كلهم يردد: كأن قوة روحية ومدداً ربانياً جاءنا جميعاً، أنستنا الأهل والأحبة والأولاد.
يكرر النقيب هانى إعجابه بالسادات: كان يزورنا مراراً على الجبهة ويلتقى بالمقاتلين الصغار أمثالى، وقبل الحرب بعدة أشهر زارنا فى الفرقة السابعة بالجيش الثالث فوجدت نفسى تلقائياً ولا شعورياً ودون ترتيب مسبق أحتضنه وأقبله، وهذا غير معهود وممجوج فى العرف العسكرى.
فلما جاء المرة التى تليها تذكرنى ونادانى قائلاً: يا ولد انت عامل ولا احتياط؟ فقلت له: احتياط، فأشار إلى المشير أحمد إسماعيل قائلاً: حوله إلى ضابط عامل، وإذا بى لا شعورياً أقول: يا فندم لى شقيقات وأسرة مسئولة منى فمعذرة لن أستطيع أن أصبح ضابطاً عاملاً، قال دون غضب أو حساب أو عقاب: خلاص يا بنى كما تحب.
يتعجب النقيب هانى الآن من تصرفه فى الحالتين، كيف يريد الرئيس والقائد الأعلى للجيش شيئاً وأرده هكذا أمام الجميع، يحاسب نفسه اليوم قائلاً: لو فعلت هذا مع عقيد أو عميد لسجنت، ولكنها أريحية السادات ورحمته.
تذكرت وقتها كيف سامح السادات رجال الخارجية الذين رفضوا الوجود معه أثناء حفل توقيع اتفاقية كامب ديفيد فلم يعاقبهم أو يحرمهم من أى منصب يستحقونه، لو حدث هذا فى أى عهد لسجنوا.
مكث أبطال أكتوبر ست سنوات يتدربون ليل نهار وينتقلون من فرقة إلى أخرى ومن دورة عسكرية إلى أخرى حتى أصبحوا فى غاية الاحتراف العسكرى، انتصارات الأمم لا تأتى صدفة وهزائمها كذلك، لك أن تتأمل الأشهر التى سبقت 5 يونيو والتى سبقت 6 أكتوبر.
نسى الأبطال أسرهم وأهليهم امتزجوا معاً، لا فرق بين جندى وضابط، نفس الطعام والأجازات، خاضوا حرب الاستنزاف التى كانت مقدمة لنصر أكتوبر، وتدريباً عملياً على كسر الهيبة الإسرائيلية الكاذبة، امتزجت أرواح الجنود معاً فضلاً عن ترابط أسرهم.
كان الزهد والرضا بالقليل هو السمة الغالبة على الجميع، غرفة الفريق عبدالمنعم رياض رئيس الأركان كانت فى منتهى البساطة، لا يقبل المعيشة فيها أحد الآن، المشير أحمد إسماعيل عاش فى نفس الشقة وبنفس الأثاث الذى تزوج عليه وهو نقيب، هذا الجيل نادر الوجود وأعتقد أنه لن يتكرر، للنصر أجيال وأسباب لمن يتدبر، رحم الله أبطال أكتوبر أحياء وأمواتاً.