هبة عبدالعزيز
استقل آلة الزمن.. القائد المقدونى المتوسطى الهوية والهوى، والمقبل من بعيد جداً من حيث الزمان والمكان.. حتى رسا على شواطئ الإسكندرية الماريا التى كان قد أسسها عام 332 ق. م، ثم راح يتجول فى شوارع مدينته العتيقة إلى أن استقر ووقف بمنطقة بحرى، وتحديداً فى القاعدة البحرية برأس التين. أخذ شهيقاً عميقاً ممتلئاً برائحة اليود، وقد رأيت فى عينيه لمعة تنبض بفرحة غامرة وشعور بفخر كبير وهو يدندن تلك الأغنية القديمة للمغنى اليونانى «يانس»:
«آه يا إسكندرية.. أيتها السماء النقية.. فى الحب أنت نقية كالماس.. وكلما لاح طيفك على صفحات البحر.. يبقى أبلغ اعتبار أن تقول يا سلام.
كم هى فاتنة فى الخريف..
واحد من مراسينا قائم فى الغرب.. والآخر العتيق فى الشرق.. لدىّ مطار فى الشمال... وفنار عريق فى الجنوب.....».
وبعد مضىّ بعض الوقت حدثنى بنبرات حملت حماس الفرسان قائلاً:
أتدرين يا عاشقة الإسكندرية أننى كنت قد أقمت تلك المدينة على الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط لتصبح الجسر العظيم الذى تعبر منه ثقافة العالم القديم، تلك الثقافة التى كانت مزيجاً رائعاً ما بين الحضارتين المصرية واليونانية القديمة، والتى مكّنت فيما بعد جالية يونانية قبرصية كبيرة العدد أن تعيش وتتعايش فى معظم قرى صعيد مصر ووجهها البحرى، عمل العديد منهم فى محلج القطن القديم، وأداروا محلات البقالة والمقاهى بالحوارى والأزقة، وعملوا فى بوفيهات السكة الحديد.. اندمجوا مع الشعب المصرى فى تآلف نادر وعجيب. واقرئى فى التاريخ يا عزيزتى كيف ناصر اليونانيون حق مصر فى استعادة قناة السويس عندما حل المرشدون اليونانيون والقبارصة محل المرشدين الأجانب آنذاك، واقرئى أيضاً كيف ناصر الزعيم عبدالناصر كفاح الأسقف «مكاريوس» لوحدة واستقلال قبرص، والتى احتل نصفها الآن «أردوغان» بكل أسف.
وقبل أن يعود سلمنى فى لحظات الوداع رسالة شكر وامتنان عميق، كتبها بقلبه، لتنبض بالحب والسلام... يوجهها للقيادة المصرية لمبادرتها بـ«العودة للجذور».
فبدعوة كريمة من وزارة الهجرة، وبتشريف السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى ونظيريه القبرصى نيكوس أناستاسيادس واليونانى بروكوبيس بافلوبولوس، ونحو ١٢٠ من أعضاء الجاليتين اليونانية والقبرصية، كان لى شرف حضور مؤتمر «العودة للجذور» الذى انطلقت فعالياته الأسبوع الماضى من مدينة الإسكندرية ذات التاريخ المشترك.
و«إحياء الجذور» مبادرة هى الأولى من نوعها للاحتفال بالجاليات اليونانية والقبرصية التى كانت تعيش فى مصر سابقاً، كان قد أطلقها السيد الرئيس السيسى خلال زيارته قبرص نهاية العام الماضى بهدف عقد لقاء على مدار أسبوع، كرسالة مودة ومحبة من جانب مصر تجاه كل من عاش على أرضها وترك إرثاً إنسانياً، ونظمت المبادرة وزارة الهجرة تحت قيادة سيادة الوزيرة نبيلة مكرم التى تحدثت فى حفل الافتتاح.
وظنى أنها رسالة هامة تعكس روحاً جديدة لمصر تستعيد من خلالها دورها ومكانتها التاريخية، مؤكدة تبنّيها فى سياساتها الخارجية لمبادئها الشريفة فى إرساء قواعد التآخى والتعاون بين الدول بشكل عام، ومما يؤكد بشكل خاص صداقة المصريين مع اليونانيين والقبارصة، تلك الصداقة التى ترجع إلى قرون عديدة قبل الميلاد.
ولعلى أرى أيضاً أن جزءاً كبيراً من أهمية هذه المبادرة يرجع إلى القرار بانطلاقها فى هذا التوقيت الزمنى الصعب الذى تتصارع فيه الدول وتتحارب، وتسيطر فيه على عالمنا اليوم كافة أشكال العنف والإرهاب، وفى ظل التصاعد المستمر لروائح وأدخنة الكراهية الخانقة لكل أشكال الإنسانية، وسط عتمة ضباب المصالح والطموحات غير المشروعة لدول تمتلك القوة والمال باتت مهمتها بكل أسف التحرش بالأمن والسلم العالمى.
وربما كان من المناسب أن أختم بتلك المقولة للإسكندر الأكبر: رجلان يصلحان للحكم: حكيم يملك، أو ملك يلتمس الحكمة.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع