بقلم: عادل درويش
مع تسارع العد التنازلي لـ«بريكست» في نهاية الشهر، الاتحاد الأوروبي متهم بالتآمر لإجبار حكومة بوريس جونسون على طلب مهلة تمديد ثلاثة أشهر أخرى، أو إسقاطه من منصبه.
تمديد المهلة يضيف مليار جنيه إسترليني شهرياً إلى دخل بروكسل، التمديد قبل ستة أشهر كلّف خزانة المملكة المتحدة 7 مليارات و640 مليون دولار. التأجيل المقترح يكلف 3 مليارات و820 مليون دولار دون ضمان أن تسفر ثلاثة أشهر إضافية عن التوصل إلى اتفاق.
زعيمة حزب بريطاني (الديمقراطيين الأحرار) جوزيفين سوينسون، طلبت من رئيس المفوضية الأوروبية التشدد مع بلادها وعدم منح لندن أي تنازلات.
في المحادثة التليفونية بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الزعيمة الفعلية للاتحاد الأوروبي وصاحبة الكلمة الأخيرة في سياسته، ورئيس الحكومة جونسون، أصرت على خيار لا يقبله أي زعيم أي بلد، وهو استقطاع جزء من بلاده، شمال آيرلندا وضمه عملياً في اتفاقية جمركية إلى الاتحاد الأوروبي، ربما عملاً بنصيحة زعيمة «الديمقراطيين الأحرار».
رأى البريكستيون في شروط الزعيمة الألمانية برهاناً على عدم حسن نيات بروكسل منذ بدء المفاوضات، وحمّلوا حكومة تيريزا ماي (يوليو «تموز» 2016 - يوليو 2019) مشروع اتفاق يضمنون أن يرفضه وستمنستر ويتكرر تمديد مهلة الخروج.
وصول جونسون إلى داوننغ ستريت وارتفاع شعبيته كان صدمة أربكت حسابات المفوضية.
كشفت الصحافة الأوروبية عن لقاء بين رئيس البرلمان الأوروبي ديفيد - ماريا ساسولي، ورئيس مجلس العموم جون بيركو، وهو ما لم يفصح عنه الأخير الذي خرق اللوائح البرلمانية لصالح البقائيين فاختطفوا جدول الأعمال ليصدروا قانوناً يُلزم الحكومة بطلب تمديد مهلة الخروج في حال عدم التوصل إلى اتفاق، وهو ما تراهن عليه بروكسل.
المتابع لسياسة المفوضية، عقب معاهدتي ماستريخت ولشبونة، يرى ما حذرت منه رئيسة الوزراء الراحلة الليدي ثاتشر: تحوُّل السوق المشتركة، التي دخلتها بريطانيا قبل أربعة عقود، إلى اتحاد فيدرالي، بجيش موحد، وحكومة (المفوضية) ومفوضة (وزيرة) خارجية بممثلين (سفراء) في عواصم العالم. الأهم هو البرلمان الموحد ويسعى الاتحاد إلى إعادة رسم حدود دوائره الانتخابية، لتعبر الحدود القومية، السياسة نفسها التي اتبعها الاتحاد السوفياتي في إلغاء مفهوم الدولة القومية.
والمتابع أيضاً سيلاحظ سوابق بروكسل في تقويض دعائم وإضعاف مواقف حكومات منتخبة ديمقراطياً، تجرأت على اتباع سياسة، صوّت لها الشعب، مختلفة عن سياسة المفوضية.
سيلفيو بيرلسكوني صاحب الرقم القياسي في رئاسة حكومات إيطاليا (1994 - 1995. 2001 - 2006. 2008 - 2011) يتهم المفوضية بالتآمر لإسقاطه في أوج الأزمة المالية الاقتصادية لمنطقة اليورو في 2011 واستبدال لجنة من التكنوقراط بحكومته، كحكومة مؤقتة غير منتخبة، برئاسة ماريو مونتي، الذي كان مفوضاً في الاتحاد الأوروبي.
المفهوم السلطوي لمحور القوى الأوروبية ذاتها التي فرضت لجنة للسيطرة على السياسة المصرية في أزمة الديون المالية في القرن التاسع عشر.
أجبرت بروكسل آيرلندا على قبول صفقة مع صندوق النقد الدولي لإنقاذ اقتصادها بشروط مهينة أدت لإسقاط حكومة بريان كاوين (2008 - 2011) المقاوم لسيطرة المفوضية الأوروبية الفيدرالية الاتجاه.
لكنّ «تغيير النظام» إذا صح استخدام تعبير المحافظين الجدد الأميركيين، تلجأ إليه بروكسل عند غياب أساليب أخرى، خصوصاً أن أكبر انتقاد يوجَّه إلى المفوضية، غير المنتخبة، هو تقييدها أيدي الحكومات المنتخبة ديمقراطياً.
وبسبب الديون أصبحت اليونان مثل مصر في نهاية القرن التاسع عشر، مستعمرة اقتصادية يحكمها الاتحاد الأوروبي.
مارست المفوضية ضغوطاً على حكومة رئيس الوزراء اليساري الاشتراكي الشعبوي أليكس تسيبراس (2015 - 2019)، بثت ضدها أخباراً مزيفة في حملة بروباغندا مركّزة وأرهقتها في سلسلة من المفاوضات العبثية لإعادة جدولة الديون بتأجيل يتبعه تأجيل لإتعاب الأعصاب وإضعاف مركزه داخلياً، وأجبرته على قبول صفقة قروض بشروط كان الشعب اليوناني قد رفضها في استفتاء عام لم تعجب نتيجته المفوضية الأوروبية. والنتيجة: خسر الانتخابات هذا الصيف.
الأمثلة الثلاثة السابقة لا تستطيع المفوضية تكرارها مع المملكة المتحدة، التي تقدم 12% من ميزانية الاتحاد، والمقصد الأول لأكبر عدد من المهاجرين، وخامس أكبر اقتصاد في العالم. لكنّ المفوضية تستخدم وسائل أخرى في ضغوطها على رئيس الوزراء بوريس جونسون، رغم تظاهرها بالنية الحسنة بإعطاء الأعضاء الضوء الأخضر، أول من أمس (الجمعة)، لكبير المفاوضين ميشيل بارنيه، (صاحب المذكرة الإلكترونية الداخلية المسربة: «عندما نتوصل إلى اتفاق يجعل البريطانيين يفضلون البقاء في الاتحاد على الخروج منه، نكون نجحنا في مهمتنا») لتكثيف جهود المفاوضات للتوصل إلى اتفاق في الأيام الأخيرة.
بروكسل لا تريد أن تبدو مسؤولة عن إفشال المفاوضات في حالة «بريكست بلا اتفاق». فثلثا البريطانيين (63%) يحمّلون بروكسل مسؤولية الفشل في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «كوم - روس» يوم الثلاثاء، وجد أن 94% بين البريكستيين و79% بين البقائيين يوجّهون اللوم إلى نواب مجلس العموم الذين تراهن عليهم بروكسل في خطة برأس حربة مزدوج. إجبار لندن على طلب تمديد فترة البقاء أو إسقاط جونسون.
الخيار الأخير يتطلب نجاح المعارضة والبقائيين والمارقين من نواب الحكومة في سحب الثقة في جلسة طارئة مقرر لها الانعقاد السبت القادم.
المرة الثالثة في تاريخ وستمنستر للانعقاد يوم السبت؛ الأولى كانت في أثناء أزمة السويس في 1956، والثانية للتصويت على إرسال قوة إنقاذ بحرية لتحرير الفولكلاند من احتلال الأرجنتين في 1982.
الجلسة للتصديق على، أو رفض، ما يتوصل إليه جونسون من اتفاق، أو خلاف، مع الزعماء الأوروبيين في لقاء القمة الأوروبية يومي الخميس والجمعة.
جونسون فقد الأغلبية العددية البرلمانية وبروكسل تراهن على برلمان، أغلبية نوابه موالون لبروكسل يسحب الثقة من حكومة جونسون، واختيار شخصية يوافق عليها النواب بالأغلبية، يتقدم بها المجلس إلى الملكة التي بإمكانها، دستورياً إقالة جونسون، وتعيين رئيس حكومة مؤقتة.
ولأن الشرعية تُستمد من الشعب، فالقصر سيشترط تحديد موعد انتخابات، وهو ما يعوقه قانون تثبيت البرلمان الذي يعدل فقط بأغلبية الثلثين؛ والمعارضة لا تريد حل البرلمان خشية انتقام الشعب في الانتخابات.
جونسون قد يستبقهم باللجوء إلى المحكمة الأعلى (Supreme Court) التي حكمت ضد حكومته بإلغاء فترة تأجيل البرلمان، ومن المتوقع أن تحكم ضده مرة أخرى وتُصدر أمراً بتمديد فترة الخروج.
خطوة يستغلها جونسون كممثل للشعب الذي يواجه طغيان الصفوة الحاكمة التي ترغمه على البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الانتخابات في ظل الانقسامات الحالية، غالباً ما ستمنح جونسون أغلبية مريحة. مواجهة حكومة وبرلمان يتفقان على تمثيل إرادة الشعب ستكون كابوساً مرعباً لبروكسل.