بقلم - عادل درويش
كان يوم الأربعاء، تاريخياً في بريطانيا كبداية فصل في قصة أعرق الديمقراطيات المستمرة. في أشهر قاعة برلمانية، وقف أول رئيس وزراء هندوسي ابن مهاجرين من شرق أفريقيا من أصول هندية، ريشي سوناك، وهو في عمر ثاني أبنائي، انتُخب كنائب في مجلس العموم منذ سبعة أعوام فقط.
بعد انتهاء أول مواجهة بلاغية بين سوناك، وزعيم المعارضة السير كيير ستارمر، دعا رئيس البرلمان، السير ليندساي هويل، الصحافيين إلى حفل استقبال كان أعده مسبقاً عندما كان بوريس جونسون لا يزال رئيساً للوزراء، احتفاء بمساهمة الأقليات السوداء في بريطانيا. بعد كلمة الترحيب بنجوم المجتمع والنماذج الناجحة من هذه الأقليات، دعا السير ليندساي اللورد بول بوتينغ، لإلقاء كلمة. بوتينغ وُلد لأم من اسكتلندا، وأب من غانا، حيث درس قبل العودة إلى لندن في سن الخامسة عشرة عام 1966، وانتُخب نائباً لمجلس العموم في 1987، وفي 2005 أصبح المفوض السامي في جنوب أفريقيا لأربع سنوات (مدة خدمة السفراء).
بجانب الكلمات المعدة عن نجاح العِرقيات المختلفة التي يتكون منها النسيج البريطاني، جاء بالطبع الحديث عن أول رئيس وزراء ملوّن في تاريخ البلاد.
في الأحاديث الجانبية تطرقنا إلى التقارير السلبية عن بريطانيا في الصحف الأميركية - خاصة اليسارية الليبرالية - وادعاءات خاطئة عن رد فعل «عنصري» في بريطانيا لتولي سوناك رئاسة الحكومة. الغريب أنه بإمكان الأميركيين مشاهدة مجلس العموم «أونلاين» في البث الحي من البرلمان ومجلس الوزراء في الصف الأول، وسنوات قبل زعامة سوناك امتلأت المناصب الكبرى بملوّنين ومسلمين ويهود وبوذيين وهندوس. وزير المالية في الوزارة السابقة كان الأفريقي كوازي كوارتينغ، وقبله ساجد جويد ابن سائق الأتوبيس المهاجر من باكستان. وزير الخارجية جيمس كليفرلي أسود. وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان ابنة مهاجرين من موريشيوس من أصول هندية، وقبلها بيرتي بيتيل ابنة مهاجرين من الهند، رئيس مجلس إدارة الحزب، وقبلها كان وزير مالية، ووزير صحة، ووزير المعارف ناظم زهاوي، الكردي اللاجئ من العراق، وقبله كانت البارونة سعيدة وارسي ابنة مهاجرين من باكستان. كيمي بيدينوك، وزيرة التجارة الدولية وشؤون النساء، من مهاجري نيجيريا، وقبلها شغل المنصب ألوك شارما من مواليد الهند، المسؤول عن المناخ، ويمثل بريطانيا في قمة شرم الشيخ للمناخ الشهر القادم.
ويبدو أن الصحف اليسارية الأميركية تشبه صحف العالم الثالث في نظرتها لبريطانيا من عدستها الأميركية، متعمدة تجاهل الواقع. فقرابة أحد عشر في المائة من نواب مجلس العموم اليوم من عِرقيات غير بيضاء، ونحو اثني عشر في المائة من سكان بريطانيا من عِرقيات غير بيضاء أو مختلطة بالبيضاء، مما يجعل مجلس العموم هو الأكثر تمثيلاً للعِرقيات والمهاجرين، كانعكاس يكاد يطابق النسبة الديموغرافية بين ديمقراطيات العالم، وخاصة أنه لا توجد كوتات (نسبة مخصصة لعِرقيات)؛ أي إن غير البيض انتُخبوا لقناعة الناخب بكفاءتهم، في حين أن بلداناً كثيرة تتهم مناهجها الدراسية وصحافتها بريطانيا بـ«العنصرية»، نادراً ما تجد في حكوماتها وزراء من أقليات دينية أو إثنية، ونادراً ما تُنتخب فيها هذه الأقليات بلا كوتة مخصصة، بل إن كثيراً من البلدان لا تسمح لأقليات دينية أو عِرقية بالترقي أو تولي مناصب مرموقة.
الملاحظ أن الأقليات البريطانية تولت أعلى المناصب في حكومات حزب يمين الوسط، «المحافظين»، وليس حكومات حزب اليسار «التقدمي»، «العمّال»، رغم اتهامات تيارات اليسار الليبرالية، لـ«المحافظين» بالرجعية والعنصرية. فليس فقط أول سيدة تتولى منصب رئيس وزراء بريطانيا كانت زعيمة «المحافظين»، الليدي مارغريت ثاتشر (1925 - 2013)، بل إن أول نائب أسود يُنتخب في بريطانيا في 1832 كان جون ستيوارت (1789 - 1860) من «المحافظين» في دائرة ليمنجتون، في حين أن «العمّال» لم يُنتخب لهم نائب أسود إلا بعد أكثر من مائة وخمسين عاماً في 1987، بيرني غرانت (1944 - 2000)، ولم ينتخب الحزب قَطّ امرأة كزعيمة له. حزب «المحافظين» تقليدياً هو حزب العصاميين وإتاحة الفرص، ويركز على الحرية الفردية، ومكافأة الفرد بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية، والعِرق والدين والجنس واللون. وإذا كانت هناك أقلية تفكر بشكل عنصري، فلا شك أنها تخلت عن حزب «المحافظين» منذ زمن طويل، عند تعيين وزراء ملوّنين، وبقيت الأغلبية من «المحافظين» ملتزمة بفكرة الأمة الحاضنة لكل العِرقيات.
استهل بوتينغ كلمته في حفل الأربعاء بمثل أفريقي: «عظمة النسر بترتيب ريشه صغيره وكبيره»، ومعناه أن الريشات الضئيلة، والريشات الكبيرة، البيضاء والسوداء، كلٌّ لا يطير بمفرده، لكنها إذا تجمعت بترتيب فوق النسر تجعله يحلّق عظيماً فوق القمم.
وقصد بوتينغ بذلك أن الأمم العظيمة مثل ريش النسر تحتضن كل العِرقيات والأبناء كريش صغير، ضئيل أو كبير، فيجعلها تحلّق دائماً ولا تسقط.
قلت للورد بوتينغ: هل تعلم يا صديقي أن بلداً كمصر، تعددت فيه عِرقيات الوزراء، كأمر طبيعي، واعتاد الناخب المصري التصويت للنواب بلا اعتبار للدين أو الطائفة، بل للكفاءة، قرابة مائة عام؟
أول رئيس وزراء لمصر في 1878 كان نوبار باشا (1825 - 1899)، أرمني العِرق، مسيحي، ومن مواليد أزمير. رياض باشا (1835 - 1911) الذي ترأس الحكومة ثلاث مرات، من أصول يهودية من القوقاز. سامي البارودي (1838 - 1904) الذي ترأس الحكومة في 1882، كانت أمه يونانية. ورئيس الوزراء في 1910 بطرس غالي باشا (1846 - 1910)، من أقدم الأسر المسيحية. كذلك رئيس الوزراء الثاني عشر يوسف وهبة باشا (1852 - 1934)، أسست أسرته الجمعية الخيرية القبطية التي موّلت تعليم كثير من الطلاب المسلمين، مثل عبد الله النديم (1843 - 1896)، والشيخ محمد عبده (1849 - 1905). واليهودي المصري يوسف قطاوي باشا (1861 - 1942)، عضو البرلمان، كان وزيراً للمالية، ثم وزيراً للمواصلات في 1924، على سبيل المثال لا الحصر.
فالأمم العظيمة العريقة تستمر في النجاح لقرون طويلة مستمدة قوتها من التعددية، واحتضان كل التيارات والعِرقيات، والمساواة، وينظر الجميع، كأفراد وكمجتمع، إلى المواطنين كأفراد كلٌّ بهوية مستقلة، لا طوائف أو كتل عِرقية أو دينية. واستمرارية هذا المفهوم الديمقراطي تساعد الأمة على السمو محلّقة كالنسر في الحكمة الأفريقية.