في حدث نادر انسحب نواب الحزب القومي الاسكوتلندي، ثاني أكبر الأحزاب المعارضة في مجلس العموم، من جلسة المساءلة الأسبوعية لرئيسة الوزراء يوم الأربعاء.
انسحب النواب الـ34، تضامناً مع زعيمهم البرلماني إيان بلاكفورد (الزعيمة السياسية للحزب ككل هي نيكولا ستيرجون الوزيرة الأولى للحكومة الاسكوتلندية) بعد أن طرده جون بيركو رئيس البرلمان (ترجمة الصحافة العربية للمتحدث الأول أو صاحب الحق في الكلام والصمت، وهو التعريف الأدق لشرح ما حدث في الجلسة) لاستمراره في الكلام رغم توجيهات بيركو بالجلوس.
كما يعلم القارئ العزيز لا يوجد في بريطانيا دستور مكتوب، فالدستور هو التفسير التطبيقي لمجموعة قوانين تمتد إلى ما قبل صياغة «الماغنا كارتا» (1215) مروراً بالعديد من الأحكام القضائية والدستورية، وعدد من الأعراف والتقاليد والقواعد البرلمانية بتراكم الممارسات، وكثيرها غير مكتوب.
مساءلة رئيس (أو رئيسة) الحكومة برلمانياً كانت مرتين في الأسبوع منذ بدأ التقليد في عام 1961، بعد التصويت على اقتراح في 1959 بتطوير تقليد بدأ في عهد رئيس الوزراء وقتها السير ونستون تشرشل في 1953، وهو تقديم أسئلة مكتوبة مباشرة لرئيس الحكومة، ليجيب عنها شفهياً في يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع.
فرصة لننبه إلى أن أم البرلمانات وأعرق الديمقراطيات، لا تزال في تطور مستمر وتغير لأكثر من ألف عام.
ويجادل الفقهاء الدستوريون في أن عدم وضع دستور مصوغ حرفياً في كتاب، يعطيه مرونة التغير والتطور لملاءمة تطور المجتمع نفسه.
وبدأ التقليد بمساءلة هارولد ماكميلان، رئيس الوزراء وقتها، في 18 يوليو (تموز) 1960.
وبعد انتخاب «العمال» في 1997 استغل توني بلير أغلبيته الكبيرة، ليحول جلستي المساءلة من 15 دقيقة لكل جلسة إلى نصف ساعة في يوم واحد، ظهر الأربعاء. وبدلاً من ثلاثة أسئلة من نصيب زعيم المعارضة أصبحت ستة، وسؤالين لزعيم ثالث أكبر حزب. وهو حالياً الحزب القومي الاسكوتلندي.
الحاكم بأمره صاحب الكلام والصمت، رئيس الجلسة بيركو، يستخدم فطنته، وصلاحياته شبه الديكتاتورية، لمنح زعماء الأحزاب الصغرى الفرصة أيضاً لتوجيه الأسئلة.
السبب أن التقليد الذي يعود إلى 1953 في حكومة تشرشل، وهو توجيه أسئلة مكتوبة، تطور ليقدم النواب أسئلة مقدماً في مطلع الأسبوع، ولأن «العموم» مكون من 650 نائباً، فيختار منها بالقرعة 15 سؤالاً.
السؤال الأول لا يتغير أبداً «هل تفضل رئيس الحكومة بتقديم بيان عن نشاطه اليومي؟» يمنح صاحبه الحق في توجيه سؤال ثانٍ.
رئيس الجلسة يوازن بمنح الفرصة لمن فاتتهم القرعة (كموازنة النساء مثلاً بالرجال، ونواب الريف بالمدن) بالحديث.
مثلاً في جلسة الأربعاء أعطت القرعة عدداً من النواب القوميين الاسكوتلنديين الفرصة لطرح أسئلة، لكن انسحابهم حرمهم من إثارة القضية التي أدت لطرد زعيمهم، بسبب الاختلاف حول ترتيب سير الجلسة بالتقاليد البرلمانية.
سؤال زعيم الكتلة الاسكوتلندية لرئيسة الوزراء كان عما إذا كان نواب الحكومة تعمدوا إضاعة الوقت في جلسة الليلة السابقة (التصويت برفض تعديلات مجلس اللوردات على قانون الخروج من الاتحاد الأوروبي) ليضيعوا على الاسكوتلنديين فرصة مناقشة تأثير الخروج على اسكوتلندا لأنه بلد (ككيان برلماني وزاري) مستقل داخل المملكة المتحدة صوت أغلبية سكانه بالبقاء في أوروبا.
الحقيقة أن «العمال» لا «المحافظين» أضاعوا الوقت بالإصرار على التصويت على كل جملة في التعديلات.
التصويت ليس برفع الأيدي، وإنما بالمرور في ردهتي «نعم» و«لا»، فيستغرق كل تصويت عشرين دقيقة.
لم يقتنع بلاكفورد بالإجابة فرفع مطلب التصويت على تحديد وقت إضافي. وعندما رفض رئيس الجلسة، رفع بلاكفورد مطلباً لم يتكرر لعقود، وهو «سرية الجلسة»، بإخلاء منصتي العامة، والصحافة، وقطع الإرسال التلفزيوني.
مطلب حجب الجلسة عن الصحافة لم يضع بلاكفورد في صدام مباشر مع رئيس الجلسة (مما أدى لطرده وخصم اليوم من راتبه البرلماني) فحسب، بل مع السلطة الرابعة عين الشعب على السلطات الأخرى.
نية زعيم القوميين الاسكوتلنديين طيبة تنبع من موقف مبدئي كممثل لأغلبية الدوائر في بلد يتمتع بحكم ذاتي، من منطلق مفهومه للمساواة ببقية أنحاء المملكة المتحدة.
المفارقة أن أكبر شعوب المملكة، الإنجليز (57 مليوناً و678 ألفاً من مجموع 60 مليوناً و600 ألف من سكان الأمة)، لا يتمتعون بحكم ذاتي أو برلمان خاص، بينما لكل من الاسكوتلنديين، ومواطني آيرلندا الشمالية وأهل إمارة ويلز، برلمان خاص وحكومة واسعة الصلاحيات.
فَهْم سكان آيرلندا الشمالية (وهم بروتستانت موالون للتاج البريطاني) مثلاً للمساواة الدستورية هو رفضهم لوائح الاتحاد الأوروبي التي تتيح للآيرلنديين الجنوبيين (كاثوليك جمهوريين) فرصة مد سيطرتهم السياسية للشمال لتفصله عملياً عن بقية بريطانيا.
بينما يرى القوميون الاسكوتلنديون المساواة باستقلالهم دستورياً عن بريطانيا (لهم 35 نائباً في وستمنستر) بتأكيد تبعيتهم للاتحاد الأوروبي (6 نواب في البرلمان الأوروبي) كمقاطعة صغيرة.
الأمر إذن يذهب أبعد من مجرد سوء فهم للوائح سير العمل البرلماني إلى تناقض روح الديمقراطية الكلاسيكية مع إصرار مجموعات قررت بخيارها التاريخي الادعاء أنها «أقلية» تعاني الظلم (كمن يختارون تغيير جنسهم مثلاً دون حاجة بيولوجية لذلك). وهنا تقع الديمقراطية الكلاسيكية (انتخاب نواب يمثلون دوائر بالتوازن الجغرافي والديموغرافي) أسيرة تفسيرات وتعديلات جديدة، يتحكم فيها بيروقراطيون وتكنوقراط غير منتخبين، كحال المفوضية الأوروبية (وفرضها حكومة غير منتخبة على إيطاليا مثلاً). أو في مطلب زعيم الكتلة الاسكوتلندية بجلسة سرية، مثل أنظمة استبدادية تتناقض وروح الديمقراطية.
فالديمقراطية الناضجة التي تبلورت في القرنين الماضيين تتناقض مع الأنظمة الآيديولوجية، التي تدعي أنها تحقق المساواة.
فيلسوف القرن الثامن عشر مونتسيكيو (1689 - 1755)، في كتابه عن أنظمة الحكم «روح القوانين» حذر الديمقراطيات من المغالاة في أمرين؛ «اللامساواة»، لأنها تؤدي إلى طبقية تنتهي بحاكم متسلط. و«المغالاة في تطبيق المساواة» لأنها تتطلب مجموعة قوانين تحتاج إلى قوة بوليس لفرض المساواة، وتنتهي إلى ديكتاتورية قمعية.
في تعريفه لأنواع الحكم، أُعجب مونتسيكيو بالنظام البرلماني البريطاني الأقرب في القرن الـ 18 لأساس النظام السياسي النموذجي، بفصل السلطات التنفيذية عن التشريعية (البرلمان) عن القضائية.
الثانية تختار الأولى، وتحاسبها، وتشرع للثالثة، والثالثة تضبط الأولى والثانية، والأولى تقترح التشريعات، وتصبح ذراع قوة تنفيذ أوامر الثالثة. وبعد تطور الصحافة نفسها كسلطة رابعة مستقلة في الفترة نفسها أصبحت الرقيب والمحاسب المستقل وعين الشعب على الثلاث، لكنها لا تستطيع التهرب من محاسبة السلطة الثالثة القضائية. نظام يصعب معه ظهور الديكتاتورية القمعية.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع