بقلم: عادل درويش
مقالنا الأسبوع الماضي تناول إغلاق بنوك بريطانية حسابات نشطاء، مثل نايجل فاراج، من قادة حركة البريكسيت، لأسباب سياسية. الفضيحة أدت إلى استقالة المدير التنفيذي لبنك كوتس (الذي أغلق حساب فاراج)، يومين بعد استقالة الرئيسة التنفيذية للبنك القابض (وستمنستر)، واعتذار الـ«بي بي سي» لبثها معلومات خاطئة مصدرها السيدة نفسها.
تناولنا الأمر كنموذج لسيطرة مؤسسات تستغل نفوذها في المجتمع وحاجة المواطن الضرورية لها للسيطرة علي توجهاته؛ لكن التحقيقات الصحافية، وشكاوى المواطنين إلى نواب البرلمان، بينت أسباباً غير سياسية لكنها سلبية الأثر، وراء إغلاق حسابات آلاف المواطنين.
غالبية الشاكين من أصحاب المتاجر الصغيرة الذين تتم معاملاتهم نقداً بمبالغ بسيطة، كالمقاهي، والمطاعم، وأكشاك بيع الصحف والسجائر، ومحلات الخضراوات والبقالة. اللوائح لا تلزم البنوك بتقديم سبب لإغلاق الحساب (يمكن طلب «التحقيق الموضوعي في السبب»، كما فعل فاراج، لكنها إجراءات معقدة). المنتقدون يتهمون المؤسسات المالية، بأنها تفضل التعامل من خلال الـ«أونلاين» وتقليل العمالة في فروعها، وبالتالي تقلل من حسابات الأعمال، والتجار، والحرفيين المتعاملين بالنقد، لأنها تتطلب صرافين في البنوك لتخليص المعاملات النقدية. الاعتقاد الإضافي، وتبرره الأدلة الظرفية، ليس في بريطانيا فقط، بل على مستوى العالم، بأن سياسة البنوك في السنوات الأخيرة جزء من اتجاه عالمي لتقليص التعامل بالنقد، واستخدام العملات الرقمية وبطاقات الائتمان بدلاً منه.
في بريطانيا يوجد 353 بنكاً ومؤسسة مالية تتعامل مع الأفراد وتقدم الخدمات المالية نقداً (كانت 357 في 2021)، بمعدل فرع بنك (ولنسمِه اجتهاداً منفذاً مالياً) للخدمات المالية لكل 190 ألف مواطن. لكن التوزيع الجغرافي، لا يعكس الواقع - فقرابة عشرة ملايين يعيشون في الريف في ستة آلاف و116 قرية (يتراوح سكان الواحدة بين خمسمائة وألفين وخمسمائة نسمة)، ومثلاً هناك مجموعة قرى في دائرة ستة أميال ليس لديها فرع بنك واحد، ولا تربطها المواصلات بعكس أكثر من مائتين مدينة بكثافة سكانية عالية (يسكنها قرابة 47 مليوناً).
في السنوات الأربع الأخيرة، أغلقت البنوك الاثنا عشر الكبرى 2174 فرعاً، وتخطط لإغلاق 265 فرعاً آخر هذا العام.
وهناك أحد عشر ألفاً و723 مكتب بريد أغلق منها 223 في العام الماضي، وهي تقدم خدمات مشابهة للمؤسسات المالية من إيداعات وصرف شيكات وغيرها، باستثناء خدمة إيداعات يومية من المطاعم ومنشآت صغيرة كالمقاهي والمحال التجارية التي تتعامل نقداً، ومن ثم لا بديل عن فروع البنوك المزودة بنظام الخزانة الآمنة التي يودع فيها إيراد المطعم أو المحل، بخاصة في المساء بعد إغلاق البنك في نافذة مخصصة لذلك.
قبل ثلاثة أشهر حذَّر السير جون كتليف، نائب محافظ بنك إنجلترا «المركزي» من تزايد أعداد المحلات والمقاهي التي ترفض التعامل نقداً، وتقبل فقط البطاقات الائتمانية (كريديت كاردز)، إذ لا يوجد فرع بنك قريب يمكن إيداع الحصيلة اليومية فيه.
البنوك ومؤسسات إصدار بطاقات الائتمان تتقاضى من أصحاب الأعمال الصغيرة أتعاباً بنسبة مئوية لتخليص المعاملة المالية - تستقطع من ثمن الخدمة أو السلعة، الذي يدخل حساب صاحب المنشأة التجارية - تتراوح ما بين واحد ونصف في المائة إلى ستة في المائة. وإذا كان المتوسط نحو ثلاثة في المائة، فإن السلعة التي ثمنها عشرة جنيهات، ستكلف صاحب المحل أو المقهى ثلاثين بنساً لتخليص معاملة بطاقة ائتمان الزبون. فمثلاً إذا أراد موظف ارتشاف فنجان قهوة وقراءة الصحيفة قبل الذهاب للمكتب، فمتوسط الثمن أربعة جنيهات للجلوس وثلاثة ونصف للخدمة السريعة (تيك أواي). كثير من المقاهي (مثل ستار بوكس مثلاً) ترفض قبول النقد وهو أحد أسباب رفع ثمن القدح بأكثر من 15 في المائة (حوالي 14 بنساً منها يتقاضاها البنك لتخليص المعاملة المالية من بطاقة الائتمان) أما الزبون نفسه إلى جانب الـ14 بنساً، سيواجه تكلفة أخرى، وهي نسبة الفائدة على الاقتراض ورسوم الاشتراك في بطاقة الائتمان، وتتراوح ما بين واحد ونصف إلى اثنين في المائة شهرياً، (حوالي ثمانية بنسات إضافية)، والزيادتان تعنيان أكثر من خمسة جنيهات لفنجان القهوة الواحد باستعمال البطاقة بدلاً من الدفع نقداً.
في العام الماضي ناقش نواب مجلس العموم مسألة تزايد عدد المنشآت التجارية الرافضة لقبول النقد، وذلك استجابة لعريضة وقعها آلاف الناخبين، لكن لم تحدد الحكومة بعد مشروع قرارات لإلزام المحلات بقبول النقد. وكان برلمان وستمنستر صوت العام الماضي على قانون يلزم كل المؤسسات المالية بتوفير مراكز الحصول على النقد، أما في الفروع أو الصرَّاف الآلي في أماكن مثل محطات القطارات، ومجمَّعات التسوق، ومحلات البقالة، ومكاتب البريد والمستشفيات. لكن هناك دعوات وعرائض تطالب بإصدار قانون يلزم بقبول النقد في المعاملات التجارية، في حملة بدأتها الصحافة الشعبية. وبينما لا تهتم صحف الطبقات الأوفر حظاً بهذا النوع من الحملات، يتزايد الاعتقاد بوجود نوع من التنسيق شبه التآمري للتلاعب بنشاطات الناس وتوجيه أسلوب حياتهم.
تبعاً لنصيحة خبير ذكاء اصطناعي حصرتُ الإنفاق اليومي ببطاقات الائتمان، لما هو أعلى من خمسين جنيهاً، والأقل نقداً. فخلال شهرين تناقص بريد التسويق (spam) الإلكتروني الذي يصلني، وعبر التواصل الاجتماعي بأكثر من الثلث.