بقلم - عادل درويش
«إذا وجدت نفسك في حفرة فكف عن الحفر»، مثل إنجليزي يبدو أن رئيسة الوزراء البريطانية، إليزابيث تراس، لم تسمع به. أول من أمس أقالت وزير المالية والاقتصاد، كوازي كوارتينغ، ثم دعتنا إلى مؤتمر صحافي عاجل.
تطورات كزلزال سياسي قد ينهي رئاستها للحكومة التي تولتها قبل أربعين يوماً، وقد يكون له عواقب اقتصادية ومالية مأساوية عند افتتاح البورصات والأسواق المالية غداً الاثنين.
منصب وزير المالية (chancellor of the Exchequer) (وترجمته العربية «وزير الخزانة» لا تفي بالمعني كاملاً لخصوصيته المقتصرة على بريطانيا) هو ثاني أقوى منصب في البلاد. مهامه كوزير المالية، وكضابط ميزان المدفوعات من صادرات وواردات، وسياسات الخزانة، والمعاملات التجارية، والضرائب، ولكل منها وزارات تحتية بإشراف وزير أقل درجة. المنصب أقدم من منصب رئيس الوزراء، الذي لم يتأسس إلا في 1721، بينما كمستشار للمؤسسة للمالية يعود إلى 1660؛ أما المنصب كمسؤول الدولة (قبل تأسيس الحكومة المنتخبة بمهامها بالمفاهيم الحديثة) عن الميزانية والمالية العمومية، فيعود إلى القرن الثاني عشر، في عهد الملك هنري الأول (1100 - 1135) كالمسؤول عن موازنة دخول الضرائب بالمصروفات. اسم المنصب يعود إلى لون «chequered» (مثل رقعة الشطرنج) القماش الذي كان يغطي مكتب المستشار، الذي يقابل منصب الوزير في العصر الحديث. وتعود أقدم السجلات المدونة عن مالية بريطانيا إلى القرن الثاني عشر من تصميم أول مستشار للمالية ريتشارد فيتزنيل (ويعرف أيضاً بفيتز نايجل 1130 - 1198)، وكان المحاسب المتصرف في ميزانية المملكة وخزانة القصر. أما سجلات المالية فتعرف بـ«البايب رولز» أو «لفائف المالية العظمى»، وتشمل سجلات امتدت لحوالي سبعة قرون (1155 - 1832).
أهمية ذكر الصلاحيات ومهام المنصب، أنه خلق أصلاً للتأكد من سلامة الموازنة للبلاد بحيث لا تفرغ الخزانة أو تضطر الدولة للاستدانة بأكثر مما تتمكن الضرائب المتوقعة من تسديده.
والسرد التاريخي هنا للإشارة إلى الارتباط الوثيق للمواطن البريطاني وحياته اليومية بالاقتصاد وترتيب الأمور المالية، ولذا كانت إقالة وزير المالية صدمة سياسية.
فهي المرة الأولى التي يستقيل أو يقال فيها وزير لأنه ينفذ السياسة التي اتفق عليها مع رئيس الحكومة. فالسيدة تراس لم تكن خيار نواب المحافظين البرلمانيين (الثلث فقط اختاروها)، بينما كانت خيار القواعد الشعبية لأعضاء الحزب الحاكم، لوعودها السياسية بميزانية جديدة تتجه نحو التنمية الاقتصادية، على أسس دعم الأهالي ومشاريع الأعمال الصغرى بتقديم دعم مادي لفواتير الطاقة (التي أدى ارتفاع أسعارها إلى زيادة الأسعار، وبالتالي معدلات التضخم)، وأيضاً جذب الاستثمارات بتخفيض الضرائب على الأعمال والمستثمرين.
قبل ثلاثة أسابيع، قدم وزير المالية، كوارتينغ، مشروع تعديل الميزانية، تنفيذاً للسياسات التي وعدت بها تراس أعضاء الحزب بتعديل السياسة المالية والضرائبية، بإلغاء زيادة ضريبة الشركات والأعمال التي حددها وزير المالية في وزارة بوريس جونسون، ريشي سوناك، بزيادة من 19 في المائة إلى 25 في المائة، كما قرر كوارتينغ تبسيط التعقيدات الضرائبية بوضع سقف لضرائب الشرائح العليا، وهو ما فسرته الصحافة والمعارضة على أنه محاباة الموسرين على حساب الفقراء. الميزانية أدت أيضاً إلى اضطراب الأسواق المالية، لعدم قدرة وزير المالية ورئيسة الحكومة على تحديد مصادر الدخل لتوفير ما يزيد على ثمانين مليار جنيه لتمويل تخفيض الضرائب ودعم فواتير الطاقة وتمويل إعانات للأسر الفقيرة.
وبالطبع جهزنا أسئلتنا كصحافيين لنفهم كيف أقدمت رئيسة الحكومة، في خطوة غير مسبوقة تاريخياً، على إقالة وزير المالية الذي رسم السياسة التي وعدت بها؟
وخروج كوازي كوارتينغ من الحكومة خسارة كبيرة، فهو خريج كمبريدج، وهارفارد في الدراسات العليا، ويتحدث الفرنسية والإيطالية، والألمانية، واليونانية، وأخبرني في العام الماضي أنه بدأ في دراسة اللغة العربية، كما نشر قصائد باللاتينية. للأسف لم تتح لي الفرصة لطرح السؤال على السيدة تراس، كحال الأكثرية من الزملاء، إذ تهربت رئيسة الوزراء من الصحافيين في أسوأ مؤتمر صحافي شاهدته لمسؤول طوال نصف قرن من عملي الصحافي.
كنا أكثر من خمسين صحافياً، واكتفت تراس بثلاث إجابات مقتضبة ثم هربت لافتقارها إلى البلاغة ومجادلة الخصم بثقة قوية.
أذكر رؤساء حكومة في مواقف حرجة كبوريس جونسون (2019 - 2022) أو توني بلير (1997 - 2007) في مواجهة الخصوم، خصوصاً في المعارضة الشديدة من الصحافة لحرب العراق، وظل في موقف صعب لعدة سنوات وكان يستمر في المؤتمر الصحافي الشهري، إلى ما بعد الموعد المحدد ليجيب على كل الأسئلة، وكان أكثرها اتهامات ومضمونها انتقادي سلبي من صحافة ليبرالية مناهضة لسياسته الخارجية. بلير، وبعده كاميرون، كأي زعيم سياسي يريد أن يحظى بثقة الناخب، يجيب بصبر وأعصاب باردة على أسئلة الصحافة التي تصنع الرأي العام، ويحاول قدر الإمكان أن يبدو واثقاً من نفسه، ويمنح الصحافة وقتاً أطول لإقناعنا بسلامة موقفه.
والتهرب من الإجابة عن أسئلة الصحافة أو الإجابة بردود مقتضبة غير كافية يتركان الباب مفتوحاً للصحافة لتستكمل الإجابات من المعارضة أو الخصوم.
وبديهياً أنه بلا قدرة على إقناع المتلقي بالمشروع السياسي، فكيف يتوقع الزعيم أن يمنحه الناخب الثقة والتصويت؟
تراس كان ثلثا النواب ضدها، وقواعد الحزب اختارتها، وخلال الأيام الماضية تحولت الهمسات المعترضة بين صفوف نواب الحزب إلى صيحات، فهم يرونها عبئاً انتخابياً بعكس جونسون الذي كان رصيداً انتخابياً. معظم نواب المحافظين الذين حاورتهم يريدون تغيير لوائح الحزب الانتخابية، وبالتالي يتفقون على مرشح واحد حتى لا يعودوا إلى قواعد الحزب للتصويت ثانية، لكنها مقامرة كبيرة سيراها الناخب غير ديمقراطية، إذ سيكون الزعيم الثالث بلا انتخابات عامة. تراس اختارت جيرمي هنت وزيراً للمالية، وهو من الخصوم، ورجل سياسة طموح كان وزيراً للثقافة والفنون والرياضة، ثم وزيراً للصحة، ثم للخارجية ومرشحاً لزعامة الحزب في 2019 ضد جونسون. السير ونستون تشرشل (1874 - 1965) في آخر رئاسة له للوزراء (1951 - 1955) قال في 1953 «في البرلمان المعارضة يحتلون المقاعد المواجهة لك، أما العدو فيجلس وراءك (يقصد نواب حزبه)».
إليزابيث تراس لا تملك جزءاً بسيطاً من بلاغة أو حكمة أو مهارات تشرشل، فهل تتمكن من إقناع الجالسين خلفها بتأجيل توجيه الطعنات حتى تتحسن الظروف الاقتصادية بمعجزة؟